الإشارات الكونية في سورة المؤمنون
جاءت الإشارات القرآنية لتبيان عدد من الحقائق الكونية الغائبة عن الناس، وقد وردت بتعبيرات دقيقة، شاملة ، جامعة، مفصلة، ومجملة تستحث حدس الإنسان بالتوجه نحو هذه الإشارات، وتقوده إلى إعمال العقل، والفكر، حيث أن تلك الإشارات محيط تستقي منه المعرفة الإنسانية كل ما غاب عن علمها عبر الزمان، والمكان، وتبقى هذه الإشارات الرافد الحقيقي للمعرفة الإنسانية، وبصيص النور الذي يقود الإنسان إلى اكتشاف، ومعرفة، وإدراك ما غاب عن إدراكه، وقد وردت مفرقة بين سور القرآن الكريم حسب مقتضى السياق، والإخبار،والأحداث، فهناك آيات كونية عديدة تضمنتها عدة سور، ففي سورة المؤمنون إشارات يمكن إيجازها فيما يلي:
الإشارات الكونية في سورة المؤمنون
- الإشارة إلى خلق الانسان من سلالة من طين.
- وصف مراحل الجنين البشري من النطفة، الأمشاج في القرار المكين إلى العقلية، ثم المضغة إلى العظام، وكسوتها باللحم إلى إنشائه خلقاً آخر في زمان سادهُ الاعتقاد بتخلق الجنين من دم الحيض وحدهُ؛ أو ماء الرجل وحده تخلقاً كاملاً دفعةً واحدة.
- ذكر خلق السماوات السبع، وهي حقيقة غيبية لا تستطيع العلوم المكتسبة الوصول إليها، نظراً لضخامة أبعاد الكون، وتمددها باستمرار في كون دائم الاتساع، إلى نهاية لا يعلمها إلا الله تعالى.
- الإشارة إلى إنزال الماء من السماء بقدر، وإلى إسكانه في الأرض بحكمة.
- الربط بين إنزال الماء من السماء، وإخراج النبات من الأرض، وإنشاء جنات من نخيل، وأعناب، ومن غيرهما.
- وصف شجرة الزيتون بأنها تنبت بالدهن (الزيت)، وصبغ للأكلين، والتركيز على شجرة الزيتون الذي ينبت في طور سيناء بصفة خاصة.
- الإشارة إلى أن في خلق الأنعام عبرة للمعتبرين.
- ذكر حاسة السمع قبل الأبصار، والأفئدة، والملاحظات المُنكرة تؤكد سبق حاسة السمع عند المولود على بقية الحواس.
- تقرير حقيقتي كروية الأرض، ودورانها حول محورها أمام الشمس بالإشارة الضِمنية الرفيعة إلى اختلاف الليل، والنهار.
- ذكر عدد من الأنبياء، والرسل، وإيجاز تفاعل أقوامهم بدقة فائقة تؤكدها دراسات الآثار في الحالات التي تمت دراستها، ومن هؤلاء الأنبياء (نوح، وموسى، وهارون، وعيسى بن مريم).
- {يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}[النحل:11]، ينبت لكم ربكم بالماء الذي أنزل لكم من السماء زرعكم، وزيتونكم، ونخيلكم، وأعنابكم.
- {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِين}[المؤمنون:20].
- قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}[النور:35].
- قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِه}[عبس:24].
- قال تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون}[التين:1].
من الدلالات اللغوية للآية الكريمة
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِين}[المؤمنون:12]:
(الطين)، وهو التُراب المخُتلط بالماء، (سلالة)، وسلالة الشي ما استل منه في خفاءٍ، وتستر، وهو ما يُستل من شيءٍ آخر ويفصل عنه.
أولاً: تركيبة جسم الإنسان.
التركيب الكيميائي لجسم الإنسان، يؤكد صِلتهُ بالطين:
- يتكون جسم الإنسان أساسا من الماء 70,54%.
- البروتينات (17,11%)، الدهون (14,6%)، وعدد من العناصر الأخرى (6,5%).
- وبتحليل التركيب الكيميائي لجسم الإنسان إلى عناصر أولية يتضح أنه يتكون مما يلي:
- الأكسجين 65%. الكربون 18%. الأيدروجين ١٠٪. النتروجين الكالسيوم 13%. 1,4%. الفسفور 2,6%.
- وعناصر جسم الإنسان تشبه في مجموعها التركيب الكيميائي لتراب الأرض المختلط بالماء (الطين).
ثانياً: نمو جسم الإنسان.
نمو الإنسان بتغذيه على نبات الأرض يوكد صِلته بسلالة من طينها:
- تمتص جذور النباتات عناصر الأرض، ومركباتها الذاتية في الماء المحتجز بين حبيبات التربة، فتنمو، وتنتج المحاصيل، والثمار المختلفة التي يحيا عليها الإنسان، وكثير من أنواع الحيوانات.
- خلق الله النبات قبل خلق الحيوانات، والإنسان؛ لأن النبات: هو الوسيلة الوحيدة لتحويل عناصر الأرض إلى سلسلة من المواد الغذائية التي يحيا عليها الحيوان والإنسان. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِين} [المؤمنون:12].
ثالثاً: تحلل جسم الإنسان.
بعد الوفاة تتحلل أجساد البشر، وتتحول إلى سلالة من طين، قبل ان تغيب في تراب الأرض، بعملية معاكسة لعملية الخلق التي بدأت من تراب الأرض الذي ارتوى بالماء، فأصبح طيناً.
من الدلالات اللغوية للنص الكريم في سورة المؤمنون
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين} [المؤمنون:14].
من الدلالات اللغوية للنص الكريم (المضغة).
المضغة: هي القطعة من اللحم غير الناضج قدر ما يمضغ، وهي مرحلة بعد العلقة.، وقيل هي شيء لكن الأسنان تركت أثارها عليه.
الدلالات العلمية للنص الكريم: نظراً للبُعد الزماني، والمكاني بين الخلق من سلالة من طين، وجعله نطفة في قرار مكين، والنقلة النوعية الهائلة بين هاتين المرحلتين، جاء الفصل بينهما بحرف العطف، (ثم) الذي يدل على الترتيب، والتراخي؛ اي يقتضي تأخر ما بعده عما قبله، إما تأخير بالذات، أو بالمرتبة، أو بالوضع، وكذلك استخدام الحرف نفسه (ثم) بين طوري النطفة، والعلقة ؛للبُون الشاسع بينهما، ثم تتحرك العلقة إلى طور المضغة بالتدريج، ودون فاصل زمنى يذكر، ولذلك عطف طور المضغة على طور العلقة باستخدام حرف العطف (ف) الذي يدل على الترتيب، والتعقيب مع الاشتراك.
من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم: (فخلقنا المُضغة عظاماً):
أثبتت دراسات علم الأجنة أن طور المضغة في الإنسان، يتميز باكتمال خلق الكتل البدنية، وأنه في الفترة الممتدة من الأسبوع الخامس إلى الثامن، فإن هذه الكتل البدنية تأخذ في التحول بالتدريج من أنسجة غشائية إلى غضاريف، ثم إلى عظام، او إلى عظام مباشرة، ثم تأخذ تلك العظام في الاكتساء باللحم -العضلات، ثم بالجلد-، وتصاحب هذه العملية بظهور براعم الأطراف، ونموها إلى الأطراف الكاملة؛ وذلك في عدد من المراحل المتتالية التي يمكن إيجازها فيما يلي:
- أولاً– يبدأ تكون العمود الفقري في الأسبوع الخامس من عمر الجنين.
- ثانياً– تكوّن الجمجمة: تتكون غالبية عظام الجمجمة المعروف باسم علبة الدماغ من عظام غشائية النشأة.
- ثالثاً– تكون القفص الصدري: تتكون ضلوع القفص الصدري من نمو النتوءات المستعرضة التي تظهر على الفقرات الصدرية الاثني عشرة للعمود الفقري؛ وبذلك يتكون (٢٤) ضلعا للجنين أي على كل جانب من جانبي القفص الصدري اثنا عشر منها.
- رابعاً– تكون الأطراف: يبدأ نمو الأطراف في جسم الجنين مع بداية الأسبوع الخامس من عمره حين تبدأ براعم تلك الأطراف في الظهور بالأطراف العلوية أولاً (الذراعين)، ثم بالأطراف السفلية (الساقين)، بعد ذلك ببضعة أيام.
من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم: (ثم أنشأناه خلقا آخر).
لا يأخذ الوجه الشكل الآدمي إلا بعد تخلق العظام، وكسوتها باللحم.
مراحل تخلق الجنين
يقسم القرآن الكريم مراحل تخلق الجنين البشري إلى الأطوار الخمسة التالية:
- أولاً– طور النطفة (الأمشاج): وهو طور البويضة المخصبة، أو طور (اللقيحة) التي تنشط في الانقسام، حتى تكون ما يسمى باسم التويتة، أو الأرومة الجرثومية، وهذا الطور يستمر لمدة أسبوع تقريبا من تاريخ بدء الإخصاب.
- ثانياً– طور العلقة: ويبدأ بتعلق الأرومة الجرثومية بجدار الرحم في اليوم السادس بعد الإخصاب، وحتى نهاية اليوم الخامس، والعشرين.
- ثالثاً– طور المضغة: ويبدأ من اليوم السادس، والعشرين بعد الإخصاب تقريباً؛ وذلك باكتمال تخلق الكُتل البدنية التي تعطي الجنين شكل قطعة اللحم النَيّء الممضوغة، والتي لاكتها الأسنان، وتركت طبعاتها عليها، وينتهي هذا الطور في حدود اليوم الثاني، والأربعين بعد الإخصاب يبدأ تكون الهيكل العظمي للجنين.
- رابعاً– طور تخلق العظام، وكسوتها باللحم: يستغرق طور تخلق الأعضاء الفترة من نهاية الأسبوع الرابع إلى الأسبوع الثامن، ويبلغ ذروة نشاطه بنهاية الأسبوع السادس. خامساً- طور النشأة باكتمال الأسبوع الثامن: يصل طول الجنين إلى (٣٠) مم، ويكون تخلق الهيكل العظمي قد اكتمل، وتمت كسوته باللحم، (العضلات الجلدية)، وتكاد الأعضاء الداخلية كلها قد اكتملت بشكل أولي؛ وقد اتخذت مواضعها من جسد الجنين، فينتقل إلى طور (الحُمَيْل) الذي يبدأ مع بداية الأسبوع التاسع، -أي بداية الشهر الثالث للحمل-، وينتهي بالولادة؛ ولذاك عبرت عنه الآية الكريمة (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًاً).
من الدلالات العلمية للآيات الثلاث
- أولاً– في قوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين).
- يشبه تركيب جسم الإنسان من مجموعة التركيب الكيميائي لتراب الأرض المختلط بالماء (أي الطين)، مع زيادة واضحة في عناصر الأوكسجين، وعناصر أخرى في جسم الانسان.
- يتكون طين الأرض في غالبيته من المعادن الصلصالية التي تتركب أساسا من معادن متنوعة، مما يجعل من مكونات طين الأرض شيئا شبيها بمكونات جسم الانسان.
- ثانياً– في قوله تعالى (…ثم جعلناه نطفة في قرارٍ مكين)، بسبب استطالة الزمن بين الخلق من سلالة من طين، والخلق من نطفة في قرار مكين، استخدم القرآن الكريم حرف العطف (ثم)، الذي يدل على الترتيب مع التراخي.
- (النطفة) في اللغة: هي القليل من الماء، وقد استخدمها القرآن للتعبير عن خلية التكاثر، سواء كانت مُذَكَّرَة، أو مؤنثة في (١٢) آية في القرآن الكريم، وقد سمى القرآن الكريم النطفة بعد اختلاط الحيوان المنوي، والبيضة (أمشاج) قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: (ما من كل الماء يكون الولد…).
- ثالثاً– في قوله تعالى (ثم خلقنا النطفة علقه)، لطول الفترة الزمنية من لحظة الإخصاب إلى تمام تعلق الكيسة الآرومية، (النطفة الأمشاج المنقسمة إلى أقسام كثيرة)، والتي تصل إلى أسبوعين استخدم القرآن الكريم حرف العطف (ثم)، الذي يدل على الترتيب، والتراخي، وباطراد النمو، وتعدد الخلايا؛ وبدأ تكون الأجهزة يستطيل الجنين في نهاية الأسبوع الثالث، ليأخذ شكل دورة العلق.
- رابعاً– في قوله تعالى (…فخلقنا العلقة مضغة)، مراحل ثلاث في تطور الجنين البشري ميزها القرآن الكريم، وربطها مع بعضها البعض بحرف العطف (ف)، الذي يدل على الترتيب مع التعقيب، والاشتراك، وذلك لتتابعها المرحلة تلو الأخرى في تعاقب سريع على ما يلي:
- تحول العلقة إلى مضغة: تنتقل العلقة إلى طور جديد سماه القرآن باسم المضغة، وذلك يبدأ ظهور عدد من الكتل البدنية، والتي تبدأ بفلقة واحدة، ثم تتزايد في العدد، حتى يصل إلى (40 – 45) فلقة.
- كسوة العظام. تبدأ عملية كسوة العظام باللحم بعد اكتمال تحول المضغة إلى عظام في نهاية الأسبوع السابع من عمر الجنين (العضلات، والجلد) خلال الأسبوع الثامن.
- خامساً– في قولة تعالى (ثم أنشأناه خلقاً آخر…)، في الأسبوع التاسع من عمر الجنين يبدأ يأخذ صفته الجسدية، والشخصية من التمايز، كل أعضاء، وأجهزة الجسم التي تنشط للعمل مع بعضها البعض، من تناسق عجيب، ويطلق القرآن الكريم على هذه المرحلة، (مرحلة النشأة)، وتمتد من اليوم (257) إلى نهاية فترة الحمل.