تفسير سورة الأعراف ( الدرس الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر)
في سطور هذه المقالة نتابع معكم عرض ثلاثة دروس من سورة الأعراف والتي تشمل (الدرس الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر).
الدرس الثالث عشر/ سورة الأعراف
بيّنت هذه الآيات كيف فضل القرآن على البشر، ووضحت حال المكذبين يوم القيامة وذلك من الآيات (52-54)
إن نعم الله على الإنسان لا تحصى، وإن أفضل نعمة أنعمها على البشرية هي: إنزال كتاب يفصل، ويبين الطريق، والمصير الذي ينتظر المكذبين، وأن أمرهم، ومآلهم إلى الله، وسوف نستعرض هذا الدرس كما يلي:
أولاً/ أهداف الدرس:
تشير الآيات إلى هدفين اثنين وهما:
- إبطال معاذير المشركين بإرسال الرسل إليهم بالكتاب المفصل المبين.
- إثبات الربوبية، والألوهية بالخلق، والأمر
ثانياً/ التفسير والبيان:
- (53) (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ…) هل يتنظرون إلا عاقبة هذا الكتاب، وما يؤول إليه أمره، من تبين صدقه، وظهور صحة ما أخبر به من الوعيد، والبعث، والحساب، وتأويل الشيء: مرجعه ومصيره الذي يؤول إليه، والمراد أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث أن ما ذكر يأتيهم لا محالة (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ) يوم القيامة يقول هؤلاء الذين تركوا القرآن، واعرضوا عنه (قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (يَفْتَرُون) يكذبونه من الشركاء، وشفاعتهم.
- (54) (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ…) أنشأهن على غير مثال سابق، وأنشأ ما بينهما كذلك في مقدار ستة مراحل، تعليماً لخلقه التثبت، والتأني في الأمور (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) عرش الله تعالى مما لا يعلمه البشر الا بالاسم؛ وقد ذكر العرش في (21) آية، أما الاستواء على العرش، فذهب سلف الأمة، ومنهم الأئمة الأربعة، إلى أنه صفة لله تعالى بلا كيف، ولا انحصار، ولا تشبيه، ولا تمثيل؛ لاستحالة اتصافه تعالى بصفات المحدثين، ولوجوب تنزيهه تعالى عما لا يليق به (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير) الشورى (11) وأنه يجب الإيمان بهذه كما وردت، وتفويض العلم بحقيقتها إليه تعالى، وقد ذكر الاستواء على العرش في (7) آيات (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) التغشية، والستر أي يجعل الليل غاشياً للنهار، مغطياً له فيذهب بنوره، وهكذا دواليك في ليل، ونهار، وبتعاقب الأمثال يستمر الإبدال، فيتبع كل واحد منهما في الآخر، فكما يغطي النهار بالليل يغطي الليل بالنهار، وفي ذلك من منافع الخلق ما فيه، وبه تتم الحياة، وهو دليل القدرة، والحكمة، والتدبير من الإله العلي العظيم (يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) يطلب الليل النهار طلباً سريعاً، حتى يلحقه، ويدركه، وهي كناية عن أن أحدهما يأتي عقب الآخر، ويخفه بلا فاصل فكأنه يطلبه طلباً سريعاً لا يفتر عنه، حتى يلحقه، والحث على الشيء الحض عليه (لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) الخلق: إيجاد الأشياء من العدم، والأمر: التدبير، والتصرف على حسب الإرادة لما خلقه، فهو سبحانه الخالق، والمدبر للعالم على حسب إدارته، وحكمته لا شريك له في ذلك (تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين) كثر خيره، وإحسانه من البركة بمعنى الكثرة من كل خير، وأصلها النماء، والزيادة، أو ثبت، ودام كما لم يزل، ولا يزال من البركة بمعنى الثبوت، أو تعالى، وارتفع، أو تقدس، وتنزه عن كل نقص.
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه:
(شفع) كلمة وردت في أكثر من موضع بمعان مختلفة، وهي على (3) أوجه:
- الوجه الأول: وردت بمعنى الشفيع قال تعالى: (فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا) الأعراف (53).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى العمل بالحسنة، أو السيئة قال تعالى: (مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا) (وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا) النساء (85).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى الشفع مقابل الوتر قال تعالى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْر) الفجر (3).
رابعاً/ وقفات مع آيات الدرس الثالث عشر سورة الأعراف:
في هذه الآيات مشاهد تستوقفنا، لندرك الحقيقة التي تنتظرنا، بل وتخبرنا بما غاب عن مداركنا، وأننا لا شيء أمام قدرة الله، ومنها:
- الوقفة الأولى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ…) وقد جاءهم كتاب مفصّل، مبيّن، فصّله الله سبحانه على علم، فتركوه، واتبعوا الأهواء، والأوهام، والظنون، وهم بعد في الدنيا ينتظرون مآل هذا الكتاب، وعاقبة ما جاءهم فيه من النذير، وهم يحذرون مجيء هذا المآل، فالمآل ما يرون في هذا المشهد من واقع الحال، إنها خفقات عجيبة في صفحات هذا المشهد المعروض، لا يجليها إلا هذا الكتاب العجيب.
- الوقفة الثانية: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ…) وهكذا ينتهي ذلك الاستعراض الكبير، ويجيء التعقيب عليه متناسقاً مع الابتداء، تذكيراً بهذا اليوم، ومشاهده، وتحذيراً من التكذيب بآيات الله، ورسله، ومن انتظار تأويل هذا الكتاب، فهذا تأويله حيث لا فسحة لتوبة، ولا شفاعة في الشدة، ولا رجعة للعمل مرة أخرى.
- الوقفة الثالثة: وهكذا يرتاد القرآن بقلوب البشر فهذه الآماد، والأكوان، والأزمان يريها ما كان، وما هو كائن، وما سيكون كله في لمحات لعلها تذكره، وتسمعه.
- الوقفة الرابعة: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ…) إن عقيدة التوحيد الإسلامية لا تدع مجالاً لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه، ولا عن كيفية أفعاله، فالله سبحانه ليس كمثله شيء، ومن ثم لا مجال للتصور البشري، لينشئ صورة عن ذات الله، فكل التصورات البشرية إنما تنشأ في حدود المحيط الذي يستخلصه العقل البشري مما حوله من الأشياء، فإذا كان الله سبحانه ليس كمثله شيء، وتوقف التصور البشري إطلاقاً عن إنشاء صورة معينة عن تصور كيفية أفعاله جميعاً، فلم يبق أمامه إلا مجال تدبر آثار هذه الأفعال في الوجود من حوله قال الرسول (ص): (تفكروا في آلاء الله، ولا تتفكروا في الله عز وجل) السلسلة الصحيحة للألباني.
خامساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات:
إن مما خلصنا إليه في هذا الدرس، واستنبطناه من الآيات أربعة أحكام وهي:
- الحكم الأول: الإيمان بأن القرآن احتوى علمين، علم في الكتاب، وعلم بما أشار إليه الكتاب.
- الحكم الثاني: تفرد الله بخلق كل شيء في الكون. الآية (54)
- الحكم الثالث: الإيمان باستواء الله على العرش مع عجزنا عن إدراك الكيف.
- الحكم الرابع: اليقين بأن لله الخلق، والأمر.
الدرس الرابع عشر/ سور الأعراف
هذه الأيات في سورة الأعراف بينت أوامر الله، ونواهيه، ونعمه – وذلك من الآيات (55-58)
في هذا الدرس يوجه الله عز، وجل عباده بالتوجه إليه بالطلب، لأنه القادر وحده، ويعلمهم آداب الطلب، وأساليب التخاطب مع خالقهم، ويصحح الأساليب الخاطئة التي يمارسونها بنهيهم عنها، كي يثمر الخطاب السليم بالنتائج الطيبة، فإلى الدرس:
أولاً/ أهداف الدرس:
للدرس أهداف ثلاثة يتمثل العبد الهدف الأول، والثاني، ليحقق الثالث، وهم:
- تنفيذ أمر الله بالتوجه بالدعاء إليه دون سواه.
- إبراز نهي الله عن الإفساد في الأرض.
- توضيح قدرة الله بإنزال المطر، وإخراج النبات.
ثانياً/ التفسير والبيان:
- (55) (ادْعُواْ رَبَّكُمْ) سلوا ربكم حوائجكم، فإنه سبحانه، وتعالى يستجيب الدعاء، ويجيب المضطر، وهو القادر على إيصالها إليكم، وغير عاجز عن ذلك (تَضَرُّعًا) تلذذاً مع الاستكانة من الضراعة، وهي الذلة، والاستكانة (وَخُفْيَةً) سراً في أنفسكم، وقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم من صوت، إن كان إلا همساً بينهم، وبين ربهم قال الرسول (ص): (يأيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصماً، ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً، قريباً وهو معكم، وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) رواه ابن جرير، وابن المبارك.
- (56) (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا…) خائفين من الرد، لقصوركم عن أهلية الإجابة تفضلاً منه تعالى كرماً، أو خائفين من عقابه، طامعين في ثوابه، والخوف هو: انزعاج في الباطن يحصل من توقع أمر مكروه يقع في المستقبل، والطمع: توقع أمرٍ محبوبٍ يحصل في المستقبل.
(إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِين) رحمة الله: إفضاله، وانعامه على عباده، أو ثوابه، وتذكير(قَرِيبٌ) باعتبار معناها، أو لكون تأنيثها مجازياً فيجوز في خبرها التذكير، والتأنيث. - (57) (بُشْرا) بضم، فسكون الشين مخففه (بُشْرًا) بضمتين: جمع بشير كنذر، ونذير أي مبشرات بنزول الغيث المتتابع، لنفع الخلق، (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً) بما فيه من الماء، وحقيقة أقلّه: وجده قليلاً ثم استعمل بمعنى حمله، لأن الحامل يستقل ما يحمله بزعم أن ما يرفعه قليل (سَحَابًا) اسم جنس جمعي يفرق بينه، وبين جمعة بالتاء روعي معناه في قوله (ثِقَالاً) ولفظه في قوله (سُقْنَاهُ) وثقالاً جمع (ثقيلة) من الثقل ضد الخفة (لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ) مجدب لا ماء فيه، ولا نبات (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى) أي كما أحيينا الأرض بعد موتها بإحداث القوى النامية فيها، وإنزال الماء عليها، واظهارها بأنواع النبات، والثمرات، نخرج الموتى من الأرض، ونبعثهم أحياء في الآخرة.
- (58) (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ) الأول مثل ضربه الله للمؤمنين (أربعوا) ارفقوا، وهونوا يقول هو طيب، وعمله طيب، والثاني مثل الكافر يقول هو خبيث، وعمله خبيث، وفيهما بيان أن القرآن يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الطيبة التربة، ولا يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الرديئة، السبخة (لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا) لا يخرج نباته إلا قليل، عديم النفع، وأصل النكد العسر القليل الذي لا يخرج إلا بعناء، ومشقة (نُصَرِّفُ الآيَاتِ) نكررها بأساليب مختلفة.
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر وجه:
كلمة (طيب) من الكلمات التي يكثر استعمالها، وتختلف معانيها حسب السياق، فقد وردت على (6) أوجه:
- الوجه الأول: وردت بمعنى الأرض الخصبة قال تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) الأعراف (58).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى الحلال قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ…) الأعراف (32).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى المن، والسلوى قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) البقرة (57).
- الوجه الرابع: وردت بمعنى الطيبات من الطعام، واللباس، والجماع قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ) المائدة (87).
- الوجه الخامس: وردت بمعنى الحلال من الغنائم قال تعالى: (فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم) الأنفال (69).
- الوجه السادس: وردت بمعنى العفة، والطهارة قال تعالى: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ…) النور (26).
رابعاً/ وقفات مع آيات الدرس الرابع عشر سورة الأعراف:
يخطئ الإنسان، ويصيب، لذا لابد من الوقوف على هذه الآيات؛ لأنها آيات تعليمية تعلمه، وكذلك تصوب أخطاءه، لتستقيم حياته، ومن تلك الوقفات :
- الوقفة الأولى: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين) إنه التوجيه في أنسب حالة نفسية صالحة إلى الدعاء، والإنابة تضرعاً، وتذللاً، وخفية لا صياحا، ولا تصدية، فالتضرع الخفي أنسب، وأليق بجلال الله، ويقرب الصلة بين العبد، ومولاه، فهذا لحسن الإيمان بجلال الله، وقربه معاً، هو الذي يؤكده المنهج القرآني هنا، ويقرره في صورته الحركية الواقعية عند الدعاء، ذلك أن الذي يستشعر جلال الله فعلاً، يستحي من الصياح في دعائه، والذي يستشعر قرب الله حقاً لا يجد ما يدعوه إلى هذا الصياح.
- الوقفة الثانية: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ…) إنها آثار الربوبية في الكون، وآثار الفاعلية، والسلطان، والتدبير، والتقدير، وكلها من صنع الله الذي لا ينبغي أن يكون للناس رب سواه، وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد، في كل لحظة تهب الرياح، وفي كل وقت تحمل الرياح سحاباً، وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء، ولكن ربط هذا كله بفعل الله، كما هو في الحقيقة، هو الجديد الذي يعرضه القرآن، وإن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة كأن العين تراه.
- الوقفة الثالثة: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة من وراء أشكالها وصورها، وملابساتها هي ما يوحي به هذا التعقيب، وكما يخرج الله الحياة من الموت في هذه الأرض، يخرج الحياة من الموت في نهاية المطاف (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة، ويغرقون في الضلالات، والأوهام.
- الوقفة الرابعة: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ…) والقلب الطيب يشبهه القرآن الكريم، بل، وحديث الرسول (ص) بالأرض الطيبة، وبالتربة الطيبة، والقلب الخبيث يشّبهه بالأرض الخبيثة، وبالتربة الخبيثة، فكلاهما ـ القلب، والتربة ـ منبتا زرع، ومخرجا ثمر، القلب ينبت نوايا، ومشاعر، وانفعالات، واستجابات، واتجاهات، وعزائم، وأعمالا بعد ذلك، وآثارا في واقع الحياة،؛ والأرض تنبت زرعاً، وثمراً مختلفاً أكله، وألوانه، ومذاقه، وأنواعه (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) صيباً، سهلاً، ميسراً، (وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا) في إيذاء، وجفوة، وفي عسر، ومشقة، (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُون) والشكر ينبع من القلب الطيب، والشكر: ملمح من ملامح هذه السورة التي تكرر الشكر فيها.
خامساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات:
في هذا الدرس كثيراً من الأحكام المستنبطة نوردها على قسمين:
دلّت الآيتان (55-56) على ما يأتي من الأحكام:
- الحكم الأول/ الأمر بالدعاء، والتعبد به، وهو نوع من أنواع العبادة.
- الحكم الثاني/ آداب الدعاء، وهي الخشوع، والاستكانة، والتضرع، وكونه سراً في النفس؛ ليبعد العبد عن الرياء، وأن يكون الذي يدعو في حالة الرجاء، والخوف.
- الحكم الثالث/ النهي عن الاعتداء بالدعاء.
- الحكم الرابع/ النهي عن الفساد في الأرض.
أرشدت الآيتان (57-58) على ما يلي:
- أن الله سبحانه هو مصدر الرزق، بخلقه لأسبابه
- أن إخراج الموتى من القبور مثل إخراج النبات الحي من الأرض
- المشابهة، والتقارب بين قلب المؤمن، والأرض الطيبة، وقلب الكافر، والأرض الخبيثة
- أن ضرب الأمثال فيها تذكير، واتعاض.
الدرس الخامس عشر/ سورة الأعراف
في هذه الآيات من سورة الأعراف ذكرت الآيات قصة نوح -عليه السلام- وذلك من الآيات (59-64)
بعد أن ذكر الله قصة أبو الأنبياء آدم عليه السلام، وذكر مصير الناجين، والمكذبين، أورد قصة أبو البشر الثاني، وهو نوح عليه السلام، وما لاقاه من قومه مقارنا بما قاله العرب لسيدنا محمد (ص)؛ لتخفيف ما يلاقيه الحبيب المصطفى، وبيان الإمهال، لا الإهمال لمن كذبوا.
أولاً/ أهداف الدرس الخامس سورة الأعراف
هناك أهداف أربعة تكمن وراء ايراد قصص الأنبياء:
- التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول دعوة الأنبياء ليس مقتصراً على قوم من الأقوام، بل هو موقف متبع في جميع الأمم السابقة.
- عرض القصص القرآني فيه تسلية للرسول (ص)، ولجميع الدعاة من بعده.
- بيان عاقبة منكري الرسالات، والرسل.
- التنبيه إلى قضية إمهال الله الظالمين، وعدم إهمالهم، بل الانتقام منهم.
ثانياً/ التفسير والبيان:
- (59) (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) شروع في ذكر أنباء بعض الرسل -عليهم السلام-، وما وقع لهم مع أممهم المكذبة، تسلية للرسول (ص) وتثبيتاً للمؤمنين، ووعيداً، وانذاراً للمكذبين، (اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ) هذه دعوة جميع رسل الله إلى أقوامهم، فتوحيد الله شرعتهم كافة -عليهم السلام-، وهو الدين القيم، والملة الحنيفة، والإسلام.
- (60) (قَالَ الْمَلأُ) اشراف القوم، وسادتهم (فِي ضَلاَلٍ مُّبِين) في ذهاب عن الحق، والصواب بَيِّن واضح.
- (62) (وَأَنصَحُ لَكُمْ) أتحرى ما فيه صلاحكم، وأرشدكم إليه، من النصح، وهو تحري قول، أو فعل فيه صلاح للغير، أو تعريف وجه المصلحة، أو خلوص النية من شوائب المكروه.
- (64) (فِي الْفُلْكِ) أي السفينة، ويذكر، ويؤنث، ويستعمل واحداً، وجمعاً (قَوْماً عَمِين) عمي البصائر عن الحق، والإيمان، لا تنفع فيهم الموعظة، ولا يعيدهم التذكير.
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه:
من الكلمات التي وردت على أكثر من وجه، وبمعان مختلفة كلمة (عَميَ)، فقد وردت على (3) أوجه:
- الوجه الأول: وردت بمعنى عمى القلب قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِين) الأعراف (64).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى عمى البصر قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ) النور (61).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى عمي عن الحجة قال تعالى: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه (124).
رابعاً/ أضواء على قصة نوح من التاريخ:
لأن نوحا -عليه السلام- أبو البشرية الثاني، وأول الرسل إلى المشركين سلطنا الأضواء على قصته، زيادة بالمعرفة، والاعتبار، وهي كما يلي:
- نوح -عليه السلام- هو: نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ.
- وهو أول الرسل إلى المشركين كما في حديث الشفاعة في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: (يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض) وهو أول الرسل جاء بتحريم البنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وقد أرسله الله إلى قومه،
- وهو ابن خمسين سنة، وكان نجاراً على الأرجح، ثم عاش بعد الطوفان ستين سنة.
- وسمي نوح، لكثرة ما ناح على نفسه، وكان بين آدم، ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، وهو أبو البشرية الثاني، وله ثلاثة أولاد ذكوراً: سام، وحام، ويافث
- سام: ذريته العرب، وفارس، والروم، وأهل الشام، وأهل اليمن.
- حام: ذريته السند، والهند، والزنج، والنوبة.
- يافث: من ذريته الترك، والبربر، وما وراء الصين، ويأجوج، ومأجوج، والصقالية.
- أول الأصنام التي عبدت: يغوث، ويعوق، ونسرَ، وود، ويسوع.
- أرسل الله نوحاً -عليه السلام- إلى قومه ليردهم من عبادة الأصنام المذكورة إلى عبادة الله وحده.
- ذكر نوح عليه السلام في القرآن الكريم (43) موضعاً، وذكرت قصته مفصلة في سورة الأعراف، وهود، والمؤمنون، والشعراء، والقمر، ونوح.
- مضمون قصته: أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يتركوا عبادة الأصنام، لكنهم عاندوه، وعارضوه، وآذوه، واتبعوا بعض زعمائهم، ومكروا مكراً عظيماً، وصمموا ألا يذروا عبادة: 1- وّد 2- وسواع 3- ويغوث 4- ويعوق 5- ونسرَ، وقالوا في حماقة، وكبرياء: إنك جادلتنا فأكثرت جدالنا، وإنا لن نترك ما نحن عليه، فأتنا بالعذاب الذي تهددنا به، فرد عليهم بأن تعذيبهم بيد الله تعالى، وقد استمر في دعوتهم (950) سنة، ثم أغرقهم الله بالماء (الطوفان)، وقد اختلف العلماء هل الطوفان عم الأرض، أم المنطقة التي كان فيها قوم نوح عليه السلام ؟ِ!.
خامساً/ وقفات مع آيات الدرس الخامس عشر سورة الأعراف:
خمس وقفات نقفها عند هذا الدرس، نتمعن بما لاقاه الدعاة في سبيل الدعوة إلى الله، وكيف واجهوا الأذى من المشركين ؛ لنتعظ، ونعتبر، وإليك سرد الوقفات :
- الوقفة الأولى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ…) تعرض القصة هنا باختصار ليست فيها التفصيلات التي ترد في مواضع أخرى من القرآن الكريم في سياق يتطلب تلك التفصيلات، كالذي جاء في سورة هود، وفي سورة نوح إن الهدف هنا هو: تصوير تلك المعالم التي تحدثنا عنها آنفاً، وطبيعة العقيدة، وطريقة التبليغ، وطبيعة استقبال القوم لها، وحقيقة مشاعر الرسول، وتحقق النذير لذلك تذكر من القصة -فحسب- تلك الحلقات المحققة لتلك المعالم على منهج القصص القرآني.
- الوقفة الثانية: (فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ…) فهي الكلمة التي لا تتبدل، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره، وهي ضمان وحدة الوجهة، ووحدة الهدف، ووحدة الرباط، وهي الكفيل بتحرير البشر من العبودية للهوى، والعبودية لأمثالهم من العبيد، وبالاستعلاء على الشهوات كلها، وعلى الوعد، والوعيد، ولقد قال نوح لقومه: (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم) فأنذرهم عاقبة التكذيب بإشفاق.
- الوقفة الثالثة: (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين) كما قال مشركو العرب لمحمد (ص): إنه صبأ، ورجع عن دين إبراهيم، وكذلك يبلغ الضال من الضلال، أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال!، بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعد ما يبلغ المسخ في الفطرة، هكذا تتقلب الموازين، وتنقطع الضوابط، ويحكم الهوى ما دام أن الميزان ليس ميزان الله الذي لا ينحرف، ولا يميل.
- الوقفة الرابعة: (قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين) ونلمح هنا فجوة السياق، فكأنما عجبوا أن يختار الله رسولاً من البشر من بينهم، يحمله رسالة إلى قومه، وأن يجد هذا الرسول في نفسه علماً من ربه لا يجده الآخرون الذين لم يختارون هذا الاختيار، هذه الفجوة في السياق يدل عليها ما بعدها (أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ…) وما من عجب في هذا الاختيار، فهذا الكائن الإنساني شأنه كله عجيب، إنه يتعامل مع العوالم كلها، ويتصل بربه بما ركب في طبيعته من نفخة الله فيه من روحه، فإذا اختار الله من بينهم رسوله -والله أعلم حيث يجعل رسالته-، فإنما يتلقى هذا المختار عنه بما أودع في كيانه من إمكانية الاتصال به، والتلقي عنه بذلك السر اللطيف الذي به معنى الإنسان، والذي هو مناط التكريم العلوي لهذا الكائن العجيب التكوين.
- الوقفة الخامسة: (لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون) فهو الإنذار لتحريك القلوب بمشاعر التقوى؛ ليظفروا في النهاية برحمة الله، ولكن الفطرة حين تبلغ حداً معيناً من الفساد لا تتفكر، ولا تتدبر، ولا تتذكر، ولا ينفع معها الإنذار، ولا التذكير (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ…) ولقد رأينا من عماهم عن الهدى، والنصح المخلص، والنذير، فبعماهم هذا كذبوا، وبعماهم لاقوا هذا المصير.
سادساً/ الأحكام المستنبطة من قصة نوح:
من خلال قراءة قصة نوح عليه السلام، والتمعن فيها نجد أنها دلت على أهتما مه في دعوته لقومه بثلاثة عناصر:
- الأول: أمرهم بعبادة الله تعالى.
- الثاني: تكريس الوحدانية، وأنه لا حكم لإله غير الله، والمقصود بالكلام الأول: إثبات التكليف والمقصود بالكلام الثاني: الإقرار بالتوحيد، وهو كالعلة للأول
- الثالث: الوعيد بلغة الإشفاق، والخوف (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم) وهو، إما عذاب يوم القيامة، أو عذاب يوم الطوفان.