2024-12-19 6:04 م
إدارة الموقع
2024-12-19 6:04 م
تفسير سورة الأعراف

تفسير سورة الأعراف (الدرس الرابع والخامس والسادس)

في هذه المقال نواصل عرض ثلاثة دروس من سورة الأعراف وبيّنت الآيات فيها قصة آدم وسبب خروجه من الجنة وفي الدرس الخامس وضحت كيف وفّر الله حوائج الدنيا لبني آدم، وتحذيرهم من فتنة الشيطان، وفي الدرس السادس وضحت الآيات تشريع الله، وتشريع المشركين

الدرس الرابع/ سورة الأعراف

في هذا الدرس من سورة الأعراف بيّنت الآيات قصة آدم في الجنة، وخروجه منها وذلك في الآيات من (19-25)

أورد الله قصص الأنبياء في كتابه الكريم للعظة، والعبرة منها، وتعزيز الطرق الصائبة، وعدم تكرار الأخطاء والمواقف السلبية، وسوف نتطرق في هذا الدرس بأسلوب مختصر، وجميل إلى الهدف من القصة ليتضح لنا المراد، والمقصد من ورودها، ثم ننتقل لبيان تفسير الآيات التي سردت لنا القصة، فالوقفات التي لا بد من إمعان النظر بها، ثم استنباط الأحكام التي تضمنته الآيات، لفهمها فهما صحيحا، وشاملا.

أولاً/ هدف الدرس:

لم ترد قصة أبونا آدم ـ عليه السلام ـ في سورة الأعراف إلا لهدف يراد تبيينه وهو: (1) إبراز أمر الله لآدم، وحواء بالسكن في الجنة بأنه أمر تعبدي، أو أمر بالإباحة، وليس أمراً تكليفياً، ولا يتعلق به التكليف.

ثانياً/ التفسير والبيان:

  1. (20) (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ…) ألقى إليهما الوسوسة، وهي في الأصل: الصوت الخفي المتكرر وأريد بها: الحديث الخفي الذي يلقيه الشيطان في قلب الإنسان؛ ليقارف الذنب (لِيُبْدِيَ لَهُمَا…) لتكون عاقبة ذلك أن يظهر لهما ما ستر عنهما من عوراتهما (وُورِيَ عَنْهُمَا) من المواراة، وهي الستر، والسوأة فرج الرجل، والمرأة، وتراجع من السوء، وسميت العورة سوأة؛ لأن انكشافها يسوء صاحبها، وقيل: الكلام كناية عن إزالة الحرمة، وإسقاط الجاه (إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ) أي كراهة أن تكونا ملكين.
  2. (22) (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) فأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية بما غرهما به من القسم، ومن التدلية، وهي ارسال الشيء من أعلى إلى اسفل (الغرور): إظهار النصح مع إبطان الغش، وأصله من غررت فلاناً : أي أصبت غِرته، وغفلته، ونلت منه ما أريد (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ) شَرعا وأخذا يلزقان من ورق الجنة ورقة فوق أخرى على عوراتهما؛ لتسترهما من الخصف، وهو خرز طاقات النعل، ونحوه بإلصاق بعضها ببعض (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا…) فلما سمعا النداء الرباني بتقريعهما، ولومهما أُلهِما أن يتوبا إلى الله، ويستغفرا من ذنوبهما بكلمات من فيض الرحمة الإلهية، فتاب الله عليهما، وهو التواب الرحيم، وقال لهما فقط، أو لهما، ولذريتهما، أو لهما، ولإبليس: اهبطوا من الجنة إلى الأرض؛ لينفذ ما أراده الله من استخلاف آدم، وذريته في الأرض، وعمارة الدنيا بهم إلى الأجل المسمى، ومنازعة عدوهم لهم فيها، والله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً، والله أعلم بأسرار كتابه.

ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه:

تتشابه الكلمات في السياق لكنها تختلف من موضع لآخر حسب جريان السياق الذي وردت فيه، فمثلا ورود كلمة:
(سكن) وردت على (4) أوجه

  1. الوجه الأول: وردت بمعنى القرار قال تعالى: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الأعراف (19).
  2. الوجه الثاني: وردت بمعنى النزول قال تعالى: (وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ) إبراهيم (14).
  3. الوجه الثالث: وردت بمعنى الاستئناس قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) الأعراف (189).
  4. الوجه الرابع: وردت بمعنى الطمأنينة قال تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم) التوبة (103).

رابعاً/ وقفات مع آيات الدرس الرابع سورة الأعراف

لكل آية في كتاب الله وقفة تأمل، واستبصار، وفي هذه الآيات التي سردت قصة نبي الله آدم عليه السلام عدة وقفات للتأمل، وهي كالتالي:

  1. الوقفة الأولى: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ…) ويسكت القرآن عن تحديد هذه الشجرة، لأن تحديد جنسها لا يزيد شيئاً في حكمة حظرها مما يرجح إن الحظر في ذاته هو المقصود، لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال، وأوصاهما بالامتناع عن المحظور، ولابد من محظور يتعلم منه هذا الجنس كي يقف عند حده، وكي يدرب الإرادة التي يضبط بها رغباته، وشهواته، ويستعلي بها عن هذه الرغبات والشهوات فيظل حاكماً لها لا محكوماً بها كالحيوان، وهذه هي خاصية الإنسان التي يتميّز بها عن الحيوان، ويتحقق بها فيه معنى الإنسان.
  2. الوقفة الثانية: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا…) والآن يبدأ ابليس يؤدي دوره الذي تمخض له، (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ…) ووسوسة الشيطان لا ندري كيف تتم، لأننا لا ندري كهنة الشيطان، حتى ندرك كيفية أفعاله، ولكننا نعلم بالخبر الصادق، وهو وحده المصدر المعتمد عندنا عن هذا الغي، إن اغوائه على الشر يقع في صورة من الصور، وإيحائه بارتكاب المحظور يتم في هيئة من الهيئات، وأن هذا الإيحاء، وذلك الإغواء يعتمدان على نقطة الضعف الفطري في الإنسان، وأن هذا الضعف يتم اتقاؤه بالإيمان، والذكر، والاستعاذة، فالإيمان جنة، والذكر عدة، والاستعاذة سلاح.
  3. الوقفة الثالثة: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ…) بذلك داعب رغائب الإنسان الكامنة، إنه يحب أن يكون خالداً لا يموت، أو معمراً أجلاً طويلاً كالخلود، ويجب أن يكون له ملك يمتلكه بالعمر القصير المحدد، وفي قراءة ملكين بكسر اللام يعضدها النص الآخر في سورة طه (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى) طه (120) وأكد هذا الإغواء بالحلف بالله إنه لهما ناصح، وأنه صادق (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين) ونسي آدم، وزوجه حواء -تحت تأثير الشهوة الدافعة، والقسم المخدر- أنه عدو لهما، وأنه لا يمكن أن يدلهما على خير(فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وهنا تمت الخدعة، وآتت ثمارها، لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته، فأنزلهما مرتبة دنيا.
  4. الوقفة الرابعة: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ…) وسمعا هذا العتاب، والتأنيب من ربهما عن المعصية، وعلى إغفال النصيحة، وأمام النداء العلوي يتكشف الجانب الآخر في طبيعة هذا الكائن المتفرد، وهو معرفة خطئه، وزلته، فندم وطلب العون من ربه، والمغفرة للذنب أن يتوب، ولا يصر على المعصية كالشيطان، فيتوب الله عليه (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا…).
  5. الوقفة الخامسة: (قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ…) وهبطوا جميعاً إلى هذه الأرض (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين) لكن أين كانوا؟ أين هي الجنة؟ هذا من الغيب الذي ليس عندنا من نبأ عنه إلا ما أخبرنا به من عنده مفاتيح الغيب وحده.
  6. الوقفة السادسة: التعقيب على القصة، وتتمثل بالحقائق التالية، والمتضمنة لخصائص التصور الإسلامي:
    1. الحقيقة الأولى: التوافق بين طبيعة الكون، ونشأة الكائن الإنساني.
    2. الحقيقة الثانية: كرامة هذا الكائن الفريد في العوالم الحية، وضخامة دوره.
    3. الحقيقة الثالثة: أن هذا الكائن ضعيفاً في بعض جوانب تكوينه، فيدخل الشيطان منها.
    4. الحقيقة الرابعة: هي جدية المعركة مع الشيطان، وأصالتها، واستمرارها، وضراوتها.
    5. الحقيقة الخامسة: إن الحياء مرتكز من مرتكزات الفطرة الإنسانية، وأن التعري ليست من صفات الإنسان، وإنما هي صفة حيوانية (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ).

خامساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات:

من الأحكام المستنبطة التي ضمنتها الآيات من (19-25) نخلص إلى عدة أحكام منها:

  1. الحكم الأول: أمر الله لآدم، وحواء بالسكن في الجنة أمر إباحة لا تكليف.
  2. الحكم الثاني: تحريم كشف العورة، وقبحها.
  3. الحكم الثالث: دلَّت الآية (قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ…) على وجود:
    1. العداوة الدائمة بين الإنسان، والشيطان
    2. توقيت بقاء الإنسان في الدنيا بحسب الأجل من الميلاد إلى الوفاة في الأرض ليقوم بدور الخلافة فيها. 

الدرس الخامس/ سورة الأعراف

في هذا الدرس بيّنت الآيات كيف وفَّر الله حوائج الدنيا لبني آدم، وتحذيرهم من فتنة الشيطان وذلك  الآيات من (26-27)

الله عز، وجل رب هذا الإنسان، ومدبر شأنه، وخالقه، ورازقه سخر له كل ما في الكون، وحذره من فتنة يقودها الشيطان ضده؛ ليحذر، ويبتعد، وقد أوردت الآيات بيانا لذلك لخصناه بما يلي:

 أولاً/ أهداف الدرس:

هناك هدفان رئيسيان وردت من أجل توضيحهما الآيات من (26-27) في سورة الأعراف، وهما:

  1. إبراز ما أعده الله للإنسان من حاجته الضرورية؛ ليقوم بدور الخلافة في الأرض.
  2. تحذير الله الإنسان من فتنة الشيطان الذي أخرج أبويه من الجنة.

ثانياً/ التفسير والبيان:

  1. (26) (يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ) وهبنا لكم بما هيأناه من الأسباب لباسين: لباس مواراة لعوراتكم، وأجسامكم، ولباس زينة، وتجمل، فقوله (وَرِيشًا) لباس ريش الطائر، وهو زينته، وقيل: (وَرِيشًا) مالاً من قولهم تريش الرجل إذا تمول، والمراد أعطيناكم اللباس للمواراة، والمال لتحصيل ما تحتاجون إليه، وهو امتنان منه تعالى على عباده في هذه النعم (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ) الإيمان، وثمراته.
  2. (27) (يَنزِعُ عَنْهُمَا) يزيل عنهما استلاباً بخداعه (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) تعليل للتحذير من متابعته بقوله (لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) بيان أنه بمنزلة العدو المُداجي (المكابر) يكيد لكم في خفية، واستتار، وإن عدوا يراك، ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله (وَقَبِيلُهُ) جنده من الجن، أو نسله (مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ) بصورهم الخلقية، أما إذا تمثلوا بصور أخرى، فإنا نراهم كما وقع كثيراً.

ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه:

من الكلمات التي وردت في سياق الآيتين بأكثر من معنى كلمة (لبس) فقد وردت على (4) أوجه:

  1. الوجه الأول: وردت بمعنى الثياب التي تلبس قال تعالى: (يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ) الأعراف (26).
  2. الوجه الثاني: وردت بمعنى الخلط قال تعالى: (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون) البقرة (42).
  3. الوجه الثالث: وردت بمعنى الستر، والسكن قال تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) البقرة (187) وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا) النبأ (10).
  4. الوجه الرابع: وردت بمعنى الإيمان، وثمراته قال تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ) الأعراف (26).

رابعاً/ وقفات مع آيات الدرس الخامس سورة الأعراف:

من خلال التمعن بالآيتين من (26-27) استخلصنا الوقفات التالية:

  • الوقفة الأولى: (يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ…) هذا النداء يجيء في ظل المشهد الذي سبق عرضه من القصة مشهد العري، وتكشف السوءات، والخصف من ورق الجنة، لقد كان هذا ثمره للخطيئة، والخطيئة كانت في معصية أمر الله، وتناول المحظور الذي نهى عنه الله، وليست هي الخطيئة التي تتحدث عنها أساطير الكتاب المقدس، وهي الأكل من شجرة المعرفة، وغيرة الله تعالى من الإنسان، وخوفه من أن يأكل من شجرة الحياة أيضاً، فيصبح كواحد من الآلهة.
    وفي مواجهة هذا كله يذكر السياق في هذا النداء نعمة الله على البشر في تشريع اللباس الذي يستر العورات المكشوفة، ثم يكون زينة و(أَنزَلْنَا) شرع لكم في التنزيل، واللباس قد يطلق على ما يواري السوأة، وهو اللباس الداخلي، والرياش قد يطلق على ما يستر الجسم كله، ويتجمل به، وهو ظاهر الثياب، كما قد يطلق الرياش على العيش الرغد، والنعمة، والمال، وهي كلها معان متداخلة، ومتلازمة قال تعالى: (يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا).
  • الوقفة الثانية: (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ…) فهناك تلازم بين شرع الله للباس لستر العورات، والزينة، وبين التقوى كلاهما لباس، هذا يستر عورات القلب، ويزينه، وذاك يستر عورات الجسم ويزينه، وهما متلازمان، فمن شعور التقوى لله، والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد، والحياء منه، ومن لا يستحي من الله، ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى، وأن يدعو إلى العري من الحياء، والتقوى، والعري من الناس، وكشف السوءة.
  • الوقفة الثالثة: (يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ…) إنه النداء الثاني لبني آدم في وقفة التعقيب على قصة أبويهم، وما جرى لهما مع الشيطان، وعلى مشهد العري الذي أوقعهما فيه عدوهما بسبب نسيانهما أمر ربهما، والاستماع إلى وسوسة عدوهما.
    • لقد كان النداء الأول تذكيراً لبني آدم بذلك المشهد الذي عاناه أبواهم، وبنعمة الله في إنزال اللباس الذي يستر العورة، والرياش الذي يتجملون به.
    • أما النداء الثاني، فهو التحذير لبني آدم عامة، وللمشركين الذين يواجههم القرآن بتحذيرهم من أن يستسلموا للشيطان فيما يتخذونه لأنفسهم من مناهج، وشرائع، وتقاليد، فيسلمهم إلى الفتنة كما فعل مع أبويهم من قبل إذ أخرجهما من الجنة، ونزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما، فالعري، والتكشف الذي يزاولونه هو عمل من أعمال الفتنة الشيطانية، وهو طرف من المعركة التي لا تهدأ بين الإنسان، وعدوه، فلا يدع بني آدم عدوهم ليفتنهم، ولن يدعوه ينتصر بالمعركة، ولابد أن ينتصروا.
  • الوقفة الرابعة: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ…) وزيادة في التحذير، واستثارة للحذر ينبئهم ربهم أن الشيطان يراهم هو، وقبيله من حيث لا يرونهم، إذاً هو أقدر على فتنتهم بوسائله الخفية، وهم محتاجون إلى شدة الاحتياط، وإلى مضاعفة اليقظة، وإلى دوام الحذر؛ كي لا يأخذهم على غِرَّة (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ…) ثم الإيقاع المؤثر الموحي بالتوفي إن الله قدّر أن يجعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، ويا ويل من كان عدوه وليّه، إذ يسيطر عليه، ويستهويه، ويقوده حيث شاء بلا عون، ولا نصير، ولا ولاية من الله (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون).

خامساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات:

الآيتان (26-27) غنيتان بالأحكام، ومن الأحكام المستنبطة من هاتين الآيتين:

  1. الحكم الأول: وجوب ستر العورة، ولا اختلاف في مقدارها.
  2. الحكم الثاني: يستحب للإنسان التنعم بالكماليات إضافة إلى الضروريات ما لم يكن إسرافا.
  3. الحكم الثالث: إن لباس التقوى هو الإيمان، والعمل الصالح، والسمت الحسن هو خير، وأبقى، وأخلد، وأتقى.
  4. الحكم الرابع: التحذير القرآني للناس من قبول وسوسة الشيطان.
  5. الحكم الخامس: عدم قدرة الإنس رؤية الجن في صورتهم الحقيقية. تدلل ذلك الآية: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ)

الدرس السادس/ سورة الأعراف

في هذا الدرس بيّنت الآيات الفرق مابين تشريع الله، وتشريع المشركين وذلك من الآيات (28-30)

لقد جاءت الشرائع جميعا تدعوا الناس إلى وحدانية الله، وحين أنزل الله الوحي إلى رسوله الكريم بالتشريع اتخذ المشركون شريعة أخرى، وهي اتباع، وتقليد الآباء، وقد ذكرت الآيات (28-30) من سورة الأعراف تلك القصة، والتي نفصلها كالآتي:

 أولاً/ أهداف الدرس:

ثلاثة أهداف تمحورت فيها هذه الآيات تبين حقيقة التشريع، وتفند مزاعم المدعين، وهي:

  1. ذكر القرآن أثر من آثار تسلط الشياطين على الذين لا يؤمنوا، وهو طاعتهم لهم.
  2. بيان أمر الله بالعدل، والاستقامة، وتنزيهه عن الأمر بالفحشاء، والمنكر، والبغي.
  3. إبراز هداية الله للمؤمنين وإضلال الله لأولياء الشيطان.

ثانياً/ التفسير والبيان:

  1. (28) (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا) وإذا فعل المشركون فعلة متناهية في القبح، الأمثلة: الشرك، الطواف عراة بالبيت العظيم، اتخاذ البحيرات، والسوائب، والزنا، والسرقة، وغير ذلك من الكبائر فنهو عنه احتجوا بتقليد آبائهم، وأن الله أمرهم بها فرد الله عليهم بأنه (لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء) وإنما يأمر بمحاسن الأعمال، ومكارم الأخلاق، والخصال، ويأمر بالعدل في الأمور كلها، وبأن تخلصوا له عبادتكم، والطاعة في عامة أموركم.
  2. (29) ({قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بالعدل، وهو جميع الطاعات، والقرب (وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ) توجهوا إلى عبادته مستقيمين، (عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) في وقت كل سجود، أو في مكان كل سجود، والمراد بالسجود: الصلاة، والمقصود من ذلك إخلاص العبادة لله تعالى (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون) تعليل للأمرين السابقين في قوله (وَأَقِيمُواْ) وقوله (وَادْعُوهُ) أي أنه تعالى يعيدكم أحياء يوم القيامة للحساب، والجزاء كما بدأكم، لا يعجزه ذلك شيء، فإن القادر على البدء قادر على الإعادة، وقيل: كلام مستأنف لتقرير قدرته على البعث، والرد على منكريه.

ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه:

كلمة (فحش) وردت في هذه الآيات، وقد وردت بآيات أخرى بنفس اللفظ لكنها تحمل معنى آخر، وقد وردت على (4) أوجه إليك بيانها:

  1. الوجه الأول: وردت بمعنى المعصية في الشرك، وغيره قال تعالى: (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون) الأعراف (28).
  2. الوجه الثاني: وردت بمعنى الفاحشة (الزنا) قال تعالى: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ) النساء (15) وقال تعالى: (يَانِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) الأحزاب (30).
  3. الوجه الثالث وردت بمعنى إتيان الرجال في أدبارهم (اللواط) قال تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِين) العنكبوت (28).
  4. الوجه الرابع: وردت بمعنى نشوز الزوجة على الزوج بدون وجه حق قال تعالى: (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ) النساء (19).

رابعاً/ وقفات مع آيات الدرس السادس سورة الأعراف:

عند قراءتنا الآيات (28-30) من سورة الأعراف استوقفتنا خمس وقفات، وهي كما يلي:

  1. الوقفة الأولى: (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا…) وذلك ما كان يفعله، ويقول به مشركو العرب، وهم يزاولون فاحشة التعري في الطواف ببيت الله الحرام (وفيهم النساء) ثم يزعمون أن الله أمر آبائهم بها ففعلوها، ثم ورثوها عن آبائهم.
  2. الوقفة الثانية: المقارنة بين الجاهلية القديمة، والجاهلية الحديثة، فالجاهلية القديمة: كانوا يفترون الفرية، ويشرعون الشرائع، ثم يقولون الله أمرنا بها!، وقد يكون هذا خطة خطيرة، وخبيثة، لأنها تخدع الذين في قلوبهم بقية من عاطفية دينية، فتوهمهم أن هذه الشرائع من عند الله.
    أما الجاهلية الحديثة التي تقول: ما للدين، وشؤون الحياة؟ وتزعم أنها صاحبة الحق في اتخاذ الشرائع، والقيم، والموازين، والعادات، والتقاليد من دون الله! فهي لم تلّبس على أصحاب العاطفة الدينية، ولكنها على كل حال أنها تزعم أن لها الحق في التشريع للناس بما يراه أصلح لأحوالهم من دون الله.
  3. الوقفة الثالثة: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء…) إن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء مطلقاً، والفاحشة كل ما يفحش، ويتجاوز الحد، والعُري من هذه الفاحشة، فالله لا يأمر به، وكيف يأمر الله بالاعتداء على حدوده، والمخالفة عن أمره بالستر، والحياء، والتقوى، ومن الذي أعلمهم بأمر الله ذاك؟ إن أوامر الله، وشرائعه ليست بالادعاء، وإن مصدر تشريع الله هو كتابه، وسنة رسوله، وغير ذلك باطل، فيكون المنقول على الله خارج إطار المصدرين قولً بدون علم (أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون).
  4. الوقفة الرابعة: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ…) إن ما أمر الله تعالى به يضاد ما هم عليه من اتباعهم لأهوائهم، والشرائع التي وضعها لهم عباد مثلهم مع دعواهم أن الله أمرهم بها، ويضاد العُري، والتكشف، وقد أمتن الله على بني آدم بأنه أنزل عليهم لباساً يواري سوءاتهم، وريشاً يتجملون به كذلك، ويضاد هذا الشرك الذي يزاولونه بازدواج مصادر التشريع لحياتهم، ولعبادتهم.
  5. الوقفة الخامسة: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون) إنها لفظة واحدة عجيبة تجمع نقطة البدء في الرحلة الكبرى، ونقطة النهاية، نقطة الانطلاق في البدء، ونقطة المآب في الانتهاء، وقد بدأت الرحلة منذ الافتراق آدم، وحواء، ومعهما الطائعون المؤمنون الذين هداهم الله، وكذلك سيعودون مع أبيهم آدم، وأمهم حواء، وينطلق الشيطان، وقبيله، والعصاة معهم، وسيعودون معهم إلى جهنم وبئس المصير.

خامساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات:

تحمل هذه الآيات دلالات، وأحكاما كثيرة ومما استنبطناه، وخلصنا إليه من الأحكام:

  1. الحكم الأول: رفض التقليد للآباء، والأسلاف دون معرفة الحكم.
  2. الحكم الثاني: أمر الله بالعدل، والاستقامة، وهو منزه عن الأمر بالفحشاء، والمنكر.
  3. الحكم الثالث: أن يكون عمل المؤمن خالصاً، وصواباً، ومتقناً.
  4. الحكم الرابع: الاعتقاد بإعادة الخلق بالبعث مثل الابتداء للخلق الأول.
  5. الحكم الخامس: الإيمان بزيادة توفيق الله المؤمنين للخير.

Author

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى