2025-04-22 9:16 ص
إدارة الموقع
2025-04-22 9:16 ص
حكاية الرحيل

حكاية الرحيل

ولأن الأنقياء قلوبهم شفافة كالضوء، وأرواحهم رقراقة كالماء، فقد كانت الأسابيع الأخيرة من حياة الأستاذ محمد علي إسماعيل أقرب إلى النفاذ في العوالم، واختراق الحجب، ولأنه كان يشعر بدنو الأجل؛ حَرِص على إنجاز أكثر أعماله بمختلف المهام التي حملها على كاهله، وتابع الجميع لتنفيذ خططهم بشكل مُبالغ فيه حتى أن أحدنا كان يحدث نفسه “لماذا المتابعة بهذا الشكل؟ ما الذي يريده الأستاذ؟ ” ودارت في خلدنا كل التوقعات والاحتمالات إلا فكرة واحدة كنا نزيحها أو على الأقل نؤجلها وهي “الموت” !! ومع أنه كان يوصي ببعض الأمور وصايا مودع، لكننا تجاهلنا كل الأحاسيس وصدقنا وهم الخلود الذي صنعته عواطفنا عُنوة.

حكاية الرحيل
أثتاء نقل جنازة الأستاذ من البيت إلى مسجد السعيد

يوم الخميس 16 جماد الأول 1445هـ أنجز الشيخ كل مهامه بما فيه درسه الأسبوعي في أحد بيوت الأقارب، فقد كان يحرص (رحمه الله) على الذهاب كل يوم بعد صلاة العشاء إلى أسرة من عائلات أبناءه وأقاربه حسب جدول أعده مسبقاً بالتنسيق مع جميع العائلات، من أجل إلقاء درس لهم ومتابعة أحوالهم، ثم يعود لتناول وجبة العشاء، بعدها يتابع الأخبار، ثم يذهب للنوم باكراً.

لم ينم تلك الليلة إلا ثلاث ساعات فقط تزيد أو تنقص قليلا، ثم استيقظ لأداء قيام الليل، فصلى كثيراً كثيراً حتى أذَّن الفجر، وذهب للمسجد بعد إيقاظه من في البيت جميعا وحتى جيرانه كما هي العادة.

الجمعة الأخيرة

عاد من الصلاة ليتابع حلقة ما بعد فجر يوم الجمعة، وحضر الدرس الأسبوعي، ثم شرع يدعو بقلب موجوع وصوت هامس مسموع خصص به أهل غزة، ختم جلسته تلك بصلاة ركعتين مع شروق الشمس.

ظنناه ذهب لينام قليلاً، لكنه وهو المحب للنشاط أنى لمثله أن يهدأ حيث بدأ بإنجاز مهام يوم الجمعة التي أعد جدولها سابقاً.

مر بعدها يتفقدنا جميعا فرداً فرداً كأنه كان في وداع لرحيل أبدي لن يكون بعده لقاء إلا في الجنة إن شاء الله.

قبل العصر حرص على حضور منتدى الفتية الصغار عنده في المجلس، وبعد العصر منتدﻯ الكبار في منزل جاره الأستاذ عادل اليوسفي حيث كان له الفضل بعد الله في تأسيسه منذ 2010م، وعاد إلى ركنه الصغير في مكتبته الخاصة ليستنشق عبير كتبه التي عكف على مطالعتها جزء كبيراً من وقته وعمره، وكأنه كان يودعها أيضا، فقد كانت هذه الكتب جزءا من عائلته يخصص لها وقتاً من يومه.

كان رحمه الله يجلس في المسجد بين صلاتي المغرب والعشاء لتدارس التفسير مع جمع من الأصدقاء والجيران، حيث أكملوا مدارسة تفسير القرآن مرتين خلال السنوات الأخيرة كما يقول الأستاذ عبد العزيز سلطان نقيب المعلمين في تعز وأحد جيرانه، وصديقه المقرب.

في مساء ذلك اليوم الجمعة 1 ديسمبر 2023م صلى أستاذنا العشاء جماعة في المسجد، ثم ذهب لمنزل حفيده “أيمن” وألقى درسه المعتاد، ثم أخبرهم أنه يشعر بالبرد الشديد، وأنه متعب قليلاً.

عاد لمنزله، وبعد تناوله وجبة العَشاء لم يذهب لمتابعة الأخبار كعادته! فقد كانت ملامحه يبدو عليها التعب والإرهاق وعندما سألته إحدى بناته عن حاله قال “سأذهب للنوم لأرتاح قليلا” وأبلغ أسرته أن لديه موعد اجتماع بعد صلاة الفجر.

بداية المرض

يقول ولده (عمر): بعد منتصف الليل، وتحديداً في الساعة الواحدة بدأ بالسعال مع قيء متواصل لم تستطع أمي السيطرة عليه فنادت على أختي خديجة القريبة منها، ثم اتصلت بي حيث كنت في الدور الثالث بنفس العمارة.
تحلقنا حوله نحن أولاده وبناته المتواجدون بالقرب منه، وحاولنا تقليبه يميناً ويساراً لكنه لم يعد يستطيع الحركة، وبرغم حالة الإغماء كان يردد “لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله”.

حكاية الرحيل
في غرفة العناية المركزة بمستشفى الصفوة

وعلى وجه السرعة نقلناه إلى مستشفى الروضة الذي حوله إلى مستشفى الصفوة، وهناك تم تشخيص حالته “بالجلطة الدماغية” وأدخله الأطباء غرفة العناية المركزة.

حالة الغيبوبة تلك كانت تمهيداً للوداع الأخير.

انتشر خبر مرضه سريعاً، واكتظ المستشفى بأقاربه، وأصدقائه، وتلاميذه، ومحبيه.. في مشهد يجسد ما للشيخ من مكانة وما زرع في قلوبهم من وفاء.

هناك في العناية المركزة عكف الأطباء على مراقبة حالته، ومحاولة إنعاشه، وارتفعت الأيدي تضرعا لله، ولهجت الألسن بالرجاء بتمام الشفاء، فيما صام البعض بنية العافية لوالد الجميع.

4 أيام بين الأمل والألم

تقول ابنته (نفيسة):

في اليوم الأول وهو في غرفة العناية كان يسمع من يزوره ويحاول أن يفتح عينيه ويحاول أن يتكلم! ثم ساءت حالته في الأيام الباقية.

كل الضمادات التي حاول الناس بها تخفيف وجعنا لم تكن على مقاس الألم! فالعقل يحاول أن يصدق أنه سيعود الى سابق عهده، والقلب يدعوا الله أن يفرحنا بشفائه.

وبيدين غير مكتوفتين كنا نراقب رحيله ونحن عاجزون! وجميعنا قال في سره ” يا رب خذ من أعمارنا وأضفه الى عمر أبي ”

تناوُبٌ على الخدمة

تحدث ابنه صلاح عن فترة المرض: منذ اليوم الأول من مرض الأستاذ ودخوله العناية المركزة، توافد العديد من محبيه وأقاربه وتلاميذه من داخل المدينة والمديريات في الريف، وأقسم البعض بعدم العودة لبيوتهم إلا بعودة الأستاذ!
تم تقسيم الشباب الى مجموعات تتناوب جوار المستشفى بشكل دائم وكانت مهامها ( متابعة حالة الأستاذ أولاً بأول بالتنسيق مع قسم العناية – توفير الاحتياجات الدوائية التي يطلبها قسم العناية المركزة – أخذ العينات والفحوصات التي يتطلب ارسالها إلى مراكز ومستشفيات خارج مستشفى الصفوة – توفير عصائر خاصة حسب خطة التغذية في قسم العناية.. وغيرها من المهام).

حكاية الرحيل
تشييع الأستاذ محمد علي إسماعيل إلى مقبرة الشهداء جوار مسجد السعيد

رجاء وتضرع

في يوم الثلاثاء 5 ديسمبر 2023 ” تحدث أحد الأطباء عن سوء حالته، مؤكداً بأن نسبة شفاءه من الجلطة التي غطت على معظم دماغه شبه مستحيلة إلا بمعجزة ممن بيده الموت والحياة”!

أُسقِطَ في أيدي أهله ومحبيه فغدوا يواسوا أنفسهم ومن حولهم أن أقدار الله تتغير بلحظة، وأمره دائماً بين الكاف والنون، وقعدوا يلهجون بألسن الرجاء وأكف التضرع أن يشفي الأب الحنون والرجل الفريد، ولكن..

تضيف ابنته نفيسة: “رجونا الله كثيراً وتوسلنا إليه أن يفرحنا بشفائه، وجاءت التدابير الإلهية والحكمة الربانية لتشريف ذلك الإنسان وترقية مقامه إلى الآخرة حيث الطمأنينة والسكينة الأبدية”.

انتصف الليل ونزلت ملائكة الرحمة لاستقبالٍ مُشرِّف وعظيم يليق به، وغشيتنا جميعا نفحات سلام بعثته الأجواء ووزعته في جوانحنا مسحة من ذلكم البهاء الذي عم المكان، ثم بدأت الاتصالات والهمسات والدمعات وحاول البعض أن يكذب الخبر! وحاول البعض الآخر أن يخفي النبأ، ولكننا صُدمنا بالحقيقة “لقد فاضت الروح إلى بارئها” في الثلث الأخير من الليل.. بالتوقيت الذي كان يحبه أبي ويختلي بنفسه وابتهالاته، فرحل ووقف الكثير يبتهل بدلاً عنه ويصلي لأجله ويدعو له، في مشهد خاشع وقلوب دامعة.

الوداع الأخير

يختتم ولده (عمر) حديثه عن رحيل المربي: في وقت مبكر من فجر الأربعاء الحزين 22 جماد الأول الموافق 6 ديسمبر 2023 تم إخراج الجثمان من المستشفى إلى مسجد السعيد، حيث تم غسله وتكفينه، ثم وصل جثمانه الطاهر الى منزله بعد صلاة الفجر، وهبت معه نسائم طمأنينة ربانية، فيما تزين وجهه البشوش بابتسامة نقية وجسد دافئ ومزيج من السلام سكن جسد الأستاذ، وازدحم المكان بجمع غفير من الأهل والأقارب لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة.

صلاة الجنازة على الأستاذ محمد علي إسماعيل
صلاة الجنازة على الأستاذ محمد علي إسماعيل
حكاية الرحيل
صلاة الجنازة على الأستاذ في مسجد السعيد

ثم تم نقل جثمانه إلى مسجد السعيد مرة أخرى، حيث احتشدت الآلاف الباكية الحزينة المودعة منذ الساعة العاشرة قبل الظهر، وفي داخل كل واحد منهم ذكريات كثيرة ومواقف متعددة جمعتهم به، وغصة ستبقى في دواخلهم فقداً وحزنا.
خرجت كل حارات تعز وتهافت الكثير من هنا وهناك والبعض حبسهم العذر فشارك بالدعاء والعزاء، فقد كان وقع الخبر علينا وعليهم جميعا ثقيلا كجبل صبر الجاثم على صدر المدينة ومع ذلك كان شعور الرضا والتسليم هو الحاضر، ويزيد كلما رأوا ابتسامة الفقيد وسكينة وجهه في نظرة الوداع الأخيرة.

حكاية رحيل

بعد صلاة الظهر تمت صلاة الجنازة فتسابق الكثير لحمل مربيهم -الذي طالما أخذ بأيديهم لكل خير- على الأكتاف، وهم يمشون بخطاهم المثقلة كان ثمة من يدفعهم للإسراع لمواراة جسده في حضن الأرض إلى جوار أصدقائه ورفقاء دربه في مقبرة الشهداء للعروج شوقاً لجنة عرضها السموات والأرض -إن شاء الله- حيث الأرواح الطاهرة.

حكاية رحيل

رحيل المربي
جانب من تشييع جنازة الأستاذ محمد علي إسماعيل من جامع السعيد
حكاية رحيل
جانب من تشييع جنازة الأستاذ محمد علي إسماعيل

Author

زر الذهاب إلى الأعلى