تفسير سورة الأعراف ( الدرس السابع والثامن والتاسع)
سنواصل في هذه المقالة عرض ثلاثة دروس من تفسير سورة الأعراف وذلك بالعناوين التالية بالترتيب ( عرض صورة من صور نعيم الدنيا،عاقبة الكذب، ومشهد دخول الكفار النار، بيان جزاء الكافرين)
الدرس السابع/ سورة الأعراف
في هذا الدرس تم عرض صورة من صور نعيم الدنيا (الزينة) وذلك من الآيات (31-34)
تعرض الآيات في طياتها صورة تتجلى فيها بيان النعيم الذي أحله الله للمؤمنين حين حرمه جهلة العرب على أنفسهم، وما أحلوه، وهو محرم عليهم، فجاءت الآيات تفصل بذلك، وكذلك، لتلجم أفواه الذين يستعجلون عذاب الله استهزاء، وإنكارا، وقد عرضنا الدرس على ضوء الآيات كالتالي:
أولاً أهداف الدرس:
للصورة التي عرضتها الآيات (31-34) ثلاثة أهداف نوجزها بالتالي:
- بيان ما أحله الله للإنسان من الزينة، والطيبات من الرزق.
- توضيح ما حرمه الله من الفواحش الظاهرة، والباطنة، ومن أبرزها الشرك بالله.
- إبراز أهمية تحديد الله لكل أمة أجل لا يتقدمون عليه، ولا يتأخرون.
ثانياً/ التفسير والبيان:
- (31) (يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ…) كان بعض جهلة العرب يطوفون بالبيت عراة، ويحرمون على أنفسهم في أيام الحج اللحم، والدسم، فأنزل الله الآية أي البسوا ثيابكم مداراة لعوراتكم عند كل عبادة من طواف، وصلاة، وكلوا، واشربوا ما أحل الله لكم، ولا تسرفوا بتحريم الحلال، ولا بتحليل الحرام.
- (32) (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ…) وأمر الرسول (ص) أن يقول لهم (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ) وهي ما أحله لهم، وما لا يحرمه الله، فلا محرم له، ويقول لهم: إن النعم التي قد أفاضها الله على المؤمنين، وأجراها عليهم، وهي غير خالصة لهم في الدنيا لمشاركة غيرهم لهم فيها، وهي خالصة لهم يوم القيامة، لحرمان الكفار من المتاع في الآخرة.
- (33) ويقول لهم (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ) وهي كبائر المعاصي، والآثام التي ترتكبون كثيراً منها (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) جهراً، وسراً (وَالإِثْمَ) وحرم الإثم كله، لما فيه من المفاسد (وَالْبَغْيَ) وحرم البغي، والظلم، لما فيه من الضرر بالعباد، وعطف الإثم على ما قبلة من باب عطف العام على الخاص، وعطف البغي على الإثم من عطف الخاص على العام، وكذا ما بعده، لمزيد الاعتناء به (وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ) وحرم عليكم أن تساووا به في العبادة إلهاً آخر لم ينزل به الله (سُلْطَانًا) حجة، وبرهاناً (وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون) وحرم عليكم الافتراء على الله بتحريم الحلال، أو تحليل الحرام، وغير ذلك مما يقولونه على الله.
- (34) (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي مدة عمر، وبقاء محدود في علمه تعالى لا تتغير، ولا تتبدل كآجال آحاد الناس فإذا جاء آخر عمرها فنيت لا محالة، لا يتأخر فناؤها عنه لحظة من الزمن، ولا يتقدم عليه لحظة، والكلام كناية عن ذلك، وفيه وعيد لكفار مكة الذين كانوا يستعجلون العذاب الموجود استهزاء.
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه:
وردت كلمة (أكل) في القرآن بأكثر من موضع جميعها تحكي عن الأكل لكن يختلف معنى الكلمة باختلاف سياق الآيات، وهي على (9) أوجه
- الوجه الأول/ وردت بمعنى مضغ الطعام قال تعالى: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين) الأعراف (31).
- الوجه الثاني/ وردت بمعنى الثمر قال تعالى: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَرًا) الكهف (33) وقال تعالى: (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا) الرعد (35) وقال تعالى: (وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ) الرعد (4).
- الوجه الثالث/ رودت بمعنى الحرق قال تعالى: (حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) آل عمران (183).
- الوجه الرابع/ وردت بمعنى الابتلاع قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ) يوسف (43).
- الوجه الخامس/ وردت بمعنى الاستئصال قال تعالى: (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُون) يوسف (48).
- الوجه السادس/ وردت بمعنى أخذ الأموال ظلماً بغير حق قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا…) النساء (10) وقال تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) البقرة (188).
- الوجه السابع/ وردت بمعنى الافتراس قال تعالى: (وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُون) يوسف (13).
- الوجه الثامن/ وردت بمعنى الانتفاع قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً) البقرة (168).
- الوجه التاسع/ وردت بمعنى الرزق قال تعالى: (لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) المائدة (66).
رابعاً/ وقفات مع الآيات الدرس السابع سورة الأعراف:
بعد إمعان النظر في هذه الآيات، وتفسيرها تحتم الوقوف أربع وقفات؛ لتوضيح حقيقة ما أحل الله، وما حرم على بني الإنسان، وهذه الوقفات هي:
- الوقفة الأولى: (يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ…) إنه التوكيد بعد التوكيد على الحقائق الأساسية للعقيدة في مواجهة ما عليه المشركين من العرب في الجاهلية، وذلك في سياق النداء إلى بني آدم كافة، وفي مواجهة قصة البشرية الكبرى.
فإظهار هذه الحقائق هو الربط بين ما يحرمونه من الطيبات التي أخرجها الله لعباده دون إذن منه، ولا شرع، وبين الشرك الذي هو الوصف المباشر لمن يزاول هذا التحريم، ويقول على الله ما لا يعلم، ويزعم ما يزعم إنه يناديهم أن يأخذوا زينتهم من اللباس الذي أنزله الله عليهم، وهو الرياش عند كل عبادة، ومنها الطواف الذي يزاولونه عرايا، ويحرمون اللباس الذي لم يحرمه الله بل أنعم به على العباد، فأولى أن يعبدوه بطاعته فيما أنزله عليهم، وكذلك يحرمون من الطعام كذلك، والله سبحانه وتعالى هو الذي أحل للناس الزينة من الثياب، والطيبات من الطعام فيتمتع به الناس دون إسراف. - الوقفة الثانية: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ…) هذا هو الذي حرمه الله، الفواحش من الأعمال المتجاوزة لحدود الله ظاهرة للناس، أو خافية، والإثم: هو كل معصية على وجه الإجمال، والبغي بغير الحق، وهو الظلم الذي يخالف الحق، والعدل كما بينهما الله، واشراك مالم يجعل الله به قوة، ولا سلطاناً مع الله سبحانه في خصائصه.
إن الجاهلية تمسخ التصورات، والأذواق، والقيم، والأخلاق، وتجعل العري الحيواني تقدماً، ورقياً، والستر الإنساني تأخراً، ورجعية. - الوقفة الثالثة: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون) إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة غير الذاكرة، ولا الشاكرة، لتستيقظ، فلا يغرها امتداد الحياة، والأجل المضروب، إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة، وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض، واستخلافها، وسواء هذا الأجل، أو ذاك فإنه مرسوم لا يقدمون عنه، ولا يستأخرون.
- الوقفة الرابعة: نقف مع التشابه العجيب في مواجهة المنهج القرآني للجاهلية في شأن الذبائح، والنذور، والتحليل فيها، والتحريم في سورة الأنعام، ومواجهة الجاهلية هنا في شأن اللباس، والطعام.
ففي شأن الذبائح، والنذور في الأنعام، والثمار، بدأ يطلب الدليل على تحليلهم، وتحريمهم قال تعالى: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَـذَا…) الأنعام (144) ثم يهددهم على فعلهم الذي لا يستند إلى دليل قال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين) الأنعام (144) ثم يواجه هروبهم من هذه المواجهة (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا…) الأنعام (148) إلى (150)، بعد أن عرض هروبهم عرض عليهم البينات الواضحات (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ…) الأنعام (151).
وهنا في سورة الأعراف ذكر ما هم عليه، وفند ذلك (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ….) الأعراف (32) ثم بين لهم ما حرم الله (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ…) الأعراف (33) (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ…) الأعراف (29).
خامساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات:
هناك أربعة أحكام مستنبطة من الآيات (31-34) سورة الأعراف أفردناها كالتالي:
- الحكم الأول: وجوب ارتداء الملابس، والثياب الحسنة، وستر العورة لأنه مظهر حضاري رفيع.
- الحكم الثاني: إباحة الأكل، والشرب من الطيبات، وتحريم الإسراف.
- الحكم الثالث: تحريم أصول الأعمال المحرمة، وهي الشرك، ومصادمة الشريعة، والقول في دين الله بغير علم، والجنايات على العقول.
- الحكم الرابع: الاعتقاد بمحدودية الآجال فلا زيادة، ولا نقصان فيها.
الدرس الثامن/ سورة الأعراف
بينت هذه الآيات في سورة الأعراف عاقبة الكذب، ومشهد دخول الكفار النار وذلك من الآية (35-39)
إن مما لا شك فيه هو انقسام الناس بعد مجيء الرسل إلى فريقين، فريق مع رسل الحق، وفريق يكذبونهم، ويفترون على الله الكذب، وأن عقاب المكذبين، والمفترين، وارد لا محالة، وقد فصلنا الحديث عنه في الدرس الآتي:
أولاً/ أهداف الدرس:
بعد دراسة الآيات وجدنا أن لها ثلاثة أهداف تريد توضيحها للناس لأخذ العظة، والعبرة منها، وهي:
- بيان اقسام الناس بعد مجيء الرسل إلى فريقين فريق المؤمنين، وفريق الكافرين.
- إبراز عاقبة الذين يكذبون على الله.
- توضيح التنافر الذي يحدث في الآخرة بين الكفار، وإن كانوا مجتمعين في الدنيا.
ثانياً/ التفسير والبيان:
- (37) (أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ) أي ينالهم في الدنيا نصيبهم مما كتب لهم من الأعمال، والأرزاق، والأعمار مع ظلمهم، وافترائهم لا يحرمون منه إلى انقضاء آجالهم تفضلاً منه تعالى رجاء أن يصلحوا، ويتوبوا فإذا انتهت آجالهم جاءتهم رسل الموت يتوفونهم قائلين لهم توبيخاً، وتقريعاً (أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ) تعبدونهم من دونه، ليمنعوكم من عذابه.
- (38) (قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم) أي يقول لهم الله تعالى يوم القيامة: ادخلوا النار في زمرة أمم مكذبة قد مضت من قبلكم، فقد حقت عليكم كلمة العذاب. (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا) تلاحقوا في النار، فأدرك بعضهم بعضاً، واجتمعوا فيها (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ) دخولاً في النار، أو هم الأتباع (لأُولاَهُمْ) السابقة دخولاً، أو هم المتبوعون (رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا) بدعوتهم إيانا إلى الضلال، أو بسنّهم لنا ما سنوا من طرائق، فاقتدينا بهم، (فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا) مضاعفاً، والضعف (المثل مرة واحدة) وقيل ضعف الشيء مثله إلى ما زاد عليه بلا نهاية، وليس مقصوراً على المثلين (مِّنَ النَّارِ) أي من عذابهم.
- (39) (وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ) أي في الدنيا بالاقتداء بل كفرتم باختياركم، فلا دخل لنا في كفركم.
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه:
كلمة (شرك) وردت في القرآن الكريم على (3) أوجه تختلف معانيها في كل موضع.
- الوجه الأول: وردت بمعنى الشرك بالله قال تعالى :(وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) النساء (36) (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) النساء (48) (أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) التوبة (3).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى الطاعة من غير عبادة قال تعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُون) الأعراف (190) كما حكى الله عن إبليس قال تعالى: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ) إبراهيم (22).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى الرياء قال تعالى: (وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف (110).
رابعاً/ وقفات مع آيات الدرس الثامن سورة الأعراف:
إن وقوف الإنسان عند هذه الآيات تزيده يقينا، وتثبتا خصوصا في مثل هذه الأحداث فهي تبين الصحيح من الزائف، وترد، وتلجم المفترين على الله، وقد أوردنا هنا ثلاث وقفات:
- الوقفة الأولى: (يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ…) هذا هو عهد الله لآدم، وبنيه، وهذا هو شرطه في الخلافة عنه سبحانه في أرضه التي خلقها، وقدر فيها أقواتها، واستخلف منها هذا الجنس، ومكنه فيها، ليؤدي دوره وفق هذا الشرط، وذلك العهد، وإلا فإن عمله رد في الدنيا لا يقبله، ولا يمضيه مسلم لله، وهو في الآخرة وزرً جزاءه في جهنم لا يقبل من أصحابه صرفاً، ولا عدلاً (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون) لأن التقوى تنأى بهم عن الآثام، والفواحش، وأفحش الفواحش الشرك بالله، واغتصاب سلطانه، وادعاء خصائص الألوهية، والتقوى تقودهم إلى الطيبات، والطاعات، وتنتهي بهم إلى الأمن من الخوف، والرضى عن المصير. (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون) لأن التكذيب، والاستكبار عن الاستسلام لعهد الله، وشرطه يلحق المستكبرين بوليهم إبليس في النار، حيث يحق وعد الله (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِين).
- الوقفة الثانية: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا…) ها نحن أولاً أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً، أو كذبوا بآياته، وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم، ويقبضون أرواحهم، فدار بين هؤلاء، وهؤلاء حوار: (قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ) أين دعاويكم التي افتريتم على الله، وأين آلهتكم التي توليتموهم في الدنيا، وافتتنتم بهم عما جاءكم من الله على لسان الرسل؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة، فلا تجدون لكم عاصماً من الموت، أو يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله الله (قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا) غابوا عنا، وتاهوا، فلا نحن نعرف لهم مقراً، ولا هم يسلكون إلينا طريقاً (وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِين) وليس لهم أي موقف آخر.
- الوقفة الثالثة: (قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم…) انضموا إلى زملائكم، وأولياكم من الجن، والإنس هنا في النار أليس إبليس هو الذي عصى ربه؟ ولقد كانت هذه الأمم، والجماعات، والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها، ويملي متبعها لتابعها، فلننظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها، وكيف يكون التنابز (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا) فما أبأسها نهاية! تلك التي يلعن فيها الابن أباه، ويتنكر فيها الولي لمولاه (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا) وتلاحق آخرها، وأولهم عند إذاً يبدأ الخصام، والجدل (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ….) وهكذا تبدأ مهزلتهم، أو مأساتهم، ويطلب له من (رَبَّنَا) شر الجزاء، ويكون الجواب من ربنا (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُون) (وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ…) وبهذا ينتهي المشهد الساخر الأليم، ليتبعه تقرير، وتوكيد كهذا المصير الذي لن يتبدل.
خامساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات:
إن مما نستخلصه من هذه القصة التي أوردتها الآيات (35-39) ثلاثة أحكام:
- الحكم الأول: وجوب الاعتقاد بانقسام الناس بعد مجيء الرسل إلى فريقين فريق المؤمنين، وفريق الجاحدين المتمردين المكذبين.
- الحكم الثاني: قبح الافتراء على الله بالتحليل، والتحريم من غير حكم الله.
- الحكم الثالث: وجوب اليقين بأن السادة، والأتباع في الكفر سواء، ويكون العذاب لهم جميعاً.
الدرس التاسع/ سورة الأعراف
في هذا الدرس من سورة الأعراف جاء بيان جزاء الكافرين وذلك من الآيات (40-41)
بعد أن ذكرت الآيات مواقف المكذبين تأتي الآيات (40-41) تبين الجزاء الذي أعده الله عز، وجل للكافرين، وسرد هاتين الآيتين بعد ذكر المكذبين ليس بالصدفة، وإنما تكملة لصورة المشهد.
أولاً/ هدف الدرس:
لهذه الآيتين هدف وحيد، وهو: بيان ما أعده الله للكافرين من العذاب.
ثانياً/ التفسير والبيان:
- (40) (لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء…) أي لا تفتح لأعمالهم، ولا لأرواحهم، لفرط خبثها، وفسادها (وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ…) ولا يدخلون الجنة حتى يدخل ما هو مثلٌ في عظم الجسم فيما هو مثلٌ في ضيق المسلك، وذلك مما لا يكون، فكذا من توقف عليه، والمراد أنهم لا يدخلونها ابداً لأن الشي الذي تعلق بما يستحيل حصوله دل ذلك على استحالته، والولوج: الدخول بشدة، والسّم: ثقب الإبرة، وكل ثقب في البدن فهو سم، والخياط والمخيط: ما يخاط به والمراد هنا الإبرة.
- (41) (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ) لهم فراش من تحتهم فيها، وأصل المهاد: المقعد الذي يقعد، ويُضطَجع عليه كالفراش (وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) أغطية، والمراد أن النار تحيط بهم من تحتهم، ومن فوقهم كما في قوله تعالى (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) الزمر (16).
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه:
لقد وردت كلمة (مهد) في أربعة مواضع في القرآن الكريم متفقة اللفظ مختلفة المعنى، وإليك سردها، وتوضيحها:
- الوجه الأول: وردت بمعنى الفرش قال تعالى: (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين) الأعراف (41) (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا) النبأ (6).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى حجز الأم قال تعالى: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) مريم (29).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى التوطين قال تعالى: (وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا) المدثر (14).
- الوجه الرابع: وردت بمعنى جمع الثواب قال تعالى: (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُون) الروم (44).
رابعاً/ وقفات مع آيات الدرس التاسع سورة الأعراف:
لا بد للمؤمن من وقفات يقفها مع هاتين الآيتين، فهي تؤكد له الجزاء الذي سيحل بالمكذبين، وتحذر الجميع من عاقبة التكذيب، بل تعزز صدق ما جاء به المرسلين .
- الوقفة الأولى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا…) ودونك فقف بتصورك ما تشاء أمام هذا المشهد العجيب -مشهد الجمل أمام ثقب الإبرة- فحين يفتح ذلك الثقب الصغير لمرور الجمل الكبير، فانتظر حينئذٍ أن تفتح أبواب السماء لهؤلاء المكذبين، فتقبل دعوتهم، أو توبتهم، وقد فات الأوان، وأن يدخلوا إلى جنات النعيم، وما دام دخول الجمل في سم الخياط مستحيل، فكذلك خروج المكذبين من النار، ودخولهم الجنة مستحيل، والقرار النهائي في حقهم (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِين) ثم إليك هيئتهم في النار (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) فلهم من نار جهنم من تحتهم فرش، ولهم من نار جهنم أيضاً أغطية تغشاهم من فوقهم، وهذا جزاء للظالمين (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين).
- الوقفة الثانية: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين) والظالمون هم المجرمون، والظالمون هم المشركون المكذبون بآيات الله، المفترون الكذب على الله، كلها أوصاف مترادفة في تعبير القرآن.
خامساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات:
دلت الآيتان على خمسة أحكام نوضحها بما يلي:
- الحكم الأول: رفض أعمال الكافرين المكذبين بآيات الله، المستكبرين عنها، فلا تفتح لأعمالهم، ولا لأرواحهم أبواب السماء.
- الحكم الثاني: إن الجنة في السماء لأن المعنى: لا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء، ولا تفتح لهم، ليدخلوا الجنة.
- الحكم الثالث: استحالة دخول الكفار الجنة.
- الحكم الرابع: إحاطة عقاب النار بالكافرين من كل جانب.
- الحكم الخامس: إن المجرمين هم الكافرون، الظالمون، المكذبون بآيات الله، المستكبرون عنها.