تفسير سورة محمد
سورة محمد (الدرس الثالث)
وفي الدرس الثالث في سورة محمد من الآية (13 – 18) بيّنت الآيات صفة نعيم الجنة وعذاب النار وحال المنافقين والمهتدين عند سماع الآيات القرآنية.
أولاً/ أهداف الدرس الثالث سورة محمد:
- قارن الله تعالى بين نوعين من جزاء المؤمنين المتقين والكافرين الظالمين.
- بيان حقيقة المنافقين وموقفهم من سماع الآيات
ثانياً/ التفسير والبيان:
- (13) (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ) كأي كلمة مركبة من كاف التشبيه وأي الاستفهامية المنونة ثم هجر معنى جزئيها وصارت كلمة واحده بمعنى (كم) الخبرية المفيدة للتكثير يكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها وهي مبتدأ خبره جملة اسمية (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً).
- (15) (مَثَلُ الْجَنَّةِ) أي صفتها مبتدأ خبره (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) أي مثل الجنة كمثل من هو خالد في النار وقدر الإستفهام لأنه مرتب على الإنكار السابق في قوله (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ) (غَيْرِ آسِنٍ) غير متغير الطعم واللون لطول المكث (مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى) خالص مما يخالطه قيل: هو تمثيل لما يجري بجر الأشربة في الجنة بأنواع ما يستطاب منها أو يستلذ في الدنيا بالتخلية عما ينقصها وينقضها والتحلية بما يوجب غزارتها ودوامها (وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا) مفرطاً في الحرارة مكان تلك الأشربة اللذيذة التي لأهل الجنة.
- (16) (مَاذَا قَالَ آنِفًا) ما القول الذي أئنفه الآن قبل مفارقتنا له؟ ومقصود المنافقين بهذا الإستهزاء لا الإستفهام الحقيقي، (آنِفًا) بمعنى ابتدأ (طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) ختم عليها بالكفر فلم تتجه للخير.
- (17) (وَآتَاهُمْ تَقْواهُم) أعانهم على تقواهم أو أعطاهم جزائها.
- (18) (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ…) أي ألم يذكرهم بأتيان الساعة ما مضى من أحوال الأمم وما جاء من أخبارهم فما ينظرون للتذكر إلا اثبات الساعة نفسها فجأة إذ لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر سوى المفاجئة بها فقد ظهرت علاماتها ولم يرفعوا لها رأساً فيكون أثباتها بطريقة المفاجئة لا محالة (أَشْرَاطُهَا) علاماتها ومنها بعثة النبي (ص)، جمع شُرَوط بالتحريك وهو العلامة وأصله الأعلام يقال أشرط فلان نفسه لكذا أعلمها له وأعدها ومنه الشرطي والجمع شُرَط سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها، (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُم) فكيف لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة بغتة.
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه:
(قرية) وردت على (10) أوجه
- الوجه الأول: وردت بمعنى القرية مجتمع الناس في أي موضع كان قال تعالى (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً…).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى مكة قال تعالى (مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى قرية إنطاكيا قال تعالى (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُون).
- الوجه الرابع: وردت بمعنى القريتين مكة والطائف قال تعالى (وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم).
- الوجه الخامس: وردت بمعنى دير هرقل قال تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا).
- الوجه السادس: وردت بمعنى أريحا قال تعالى (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً).
- الوجه السابع: وردت بمعنى قرية قوم لوط قال تعالى (إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء…).
- الوجه الثامن: وردت بمعنى قرية نينوى قال تعالى (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا…).
- الوجه التاسع: وردت بمعنى قرية أيلية قال تعالى (واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ).
- الوجه العاشر: وردت بمعنى قرية مصر التي كان فيها يوسف قال تعالى (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا).
رابعاً/ أسباب نزول آيات الدرس الثالث من سورة محمد:
سبب نزول الآية (13) (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً…) عن ابن عباس (ض) قال: لما خرج رسول الله (ص) تلقاء الغار نظر إلى مكة فقال أنت أحب بلاد الله إلي ولولا أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك.
خامساً/ وقفات مع آيات الدرس الثالث سورة محمد:
- الوقفة الأولى: تعرض الآية موازنة بين مكة التي أخرج أهلها الرسول (ص) وبين القرى الهالكة التي هي أشد منها وذلك تسلية للرسول (ص) وتهوينا من شأن المشركين الجبارين الذي وقفوا في وجه الدعوة.
- الوقفة الثاني: تأتي هذه الآية لتوازن بين حال الفريقين فريق المؤمنين وهم في الجنة يتمتعون بأنواع متعددة من الشراب اللذيذ وحال الكافرين الذين يسقون ماء حميماً يؤلمهم ولا يروي ظمأهم.
- الوقفة الثالثة: الآية (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ) توازن بين موقف الفريقين فريق المؤمنين الذين يعملون على بينة من ربهم ووضوح كامل للمنهاج الذي أراده الله لعباده وبين فريق الكافرين الذين يعملون وفق ما تملي عليهم أهوائهم.
- الوقفة الرابعة: إن القرآن الكريم يعرض أنواع النعيم في مواضع متعددة ففي مواضع يعرض نعيم حسي بحت (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) وفي مواضع يعرض نعيم معنوي بحت (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة) وفي مواضع يعرض النعيم المعنوي والحسي (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون) وكذلك عرض العذاب الحسي والمعنوي على هذا المنوال.
- الوقفة الخامسة: إن المنافقين عندما يستمعون الحق عند حضورهم مجالس الرسول (ص) لا يوجهون قلوبهم لفهمه ومعرفته وقبوله أو لأنهم يستهزؤن بأن ما يقوله الرسول (ص) غير مفهوم (مَاذَا قَالَ آنِفًا) وكذلك النفاق في كل زمان ومكان يتكرر منهم هذا الصنيع (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُم) ذلك حال المنافقين لكن حال المؤمنين (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُم).
- الوقفة السادسة: إن التقوى حالة في القلب تجعله أبدا واجفاً من هيبة الله شاعراً برقابته خائفاً من غضبه متطلعاً إلى رضاه متحرجاً من أن يراه الله على هيئة أو حالة لا يرضاها، هذه الحساسية المرهفة هي التقوى وهي مكافئة يؤتيها الله من يشاء من عباده حين يهتدون ويرغبون في الوصول إلى رضاه.
- الوقفة السابعة: ماذا ينتظر هؤلاء الغافلون الذين يدخلون مجالس الرسول (ص) ويخرجون منها غير واعين ولا حافظين ولا متذكرين (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً) فتفاجئهم وهم سادرون غافلون فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً فينقلون إلى ربهم وهم بهذه الحالة فيستحقون عقوبته.
سادساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات:
- الحكم الأول: وجوب الإيمان بأن الله قارن بين نوعين من الجزاء في القرآن.
- النوع الأول جزاء المؤمنين المتقين كما يلي: شراب المؤمنين من أربعة انهار في الجنة الماء، واللبن، والخمر، والعسل المصفى. ومأكلهم مختلف أصناف الثمار ومغفرة الله لهم ورضوانه عليهم.
- النوع الثاني جزاء الكافرين في النار: شرابهم فهو الماء الشديد الحرارة الذي يقطع الأمعاء وطعامهم الغسلين والزقوم وغضب الله وسخطه عليهم.
- الحكم الثاني: وجوب ثبات المؤمنين على توحيد الله والإعتقاد بأن (لا إله إلا الله) لها الفوقية والتقدم على كل شيء قال تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ…).
- الحكم الثالث: عدم استفادة المنافقين من التوجيه والإرشاد (مَاذَا قَالَ آنِفًا).
- الحكم الرابع: الإعتقاد بشمولية علم الله بجميع المخلوقات قال تعالى (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُم).