تفسير سورة التوبة (من الدرس الحادي عشر حتى الخامس عشر)
في هذه المقالة سنوافيكم ببقية دروس سورة التوبة والتي تبدأ من الآية 62 وحتى الآية الـ 93 حيث فضحت هذه الآيات المنافقين وكشفت خططهم وأعذارهم وأهدافهم التي كان هدفهم منها تحقيق مصالحهم الشخصية فقط
الدرس الحادي عشر من الآية (62-68) في سورة التوبة
في هذا الدرس من سورة التوبة ذكرت صفات المنافقين وكيفية استهزائهم بآيات الله
أولاً/ أهداف الدرس الحادي عشر من سورة التوبة
- بيان حرص المنافقين على أرضا الناس أكثر من حرصهم على أرضا الله
- توضيح استهزائهم بالمؤمنين واعتذارهم بأنهم كانوا يخوضوا ويلعبون
- عرض القرآن الكريم لحقيقة المنافقين بأن بعضهم من بعض
ثانياً/ التفسير والبيان
- (63) (مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ) يخلف الله ورسوله والمحادة: المخالفة والمجانبة والمعاداة مشتقة من الحد إذا صار في غير حده وجهته وجانبه خالفه كالمشاقة.
- (64) (مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون) مظهر ما تخافونه من الفضيحة والحذر بمعنى التحرز.
- (65) (كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) كنا نتحدث ونخوض في الكلام لقصر مسافة السفر بالحديث أجابوا بذلك حين أطلع الله رسوله على ما قالوه استهزاء به في مسيرة في غزوة تبوك.
- (67) (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) عن الإنفاق في طاعة الله ومرضاته كناية عن الشح والبخل كما أن بسطها كناية عن الجود والسخاء لأن من يعطي يمد يده بالعطاء بخلاف من يمنع (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ) تركوا أمر الله حتى صاروا كالناسي له فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته.
- (68) (هِيَ حَسْبُهُمْ) كافيتهم جزاء عقاباً لا يحتاجون إلى زيادة على عذابهم.
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه
(حذر) وردت على (4) أوجه
- الوجه الأول: وردت بمعنى الخوف قال تعالى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ) وقال تعالى (سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى اليقظة والانتباه قال تعالى (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى الامتناع قال تعالى (وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ).
- الوجه الرابع: وردت بمعنى الكتمان قال تعالى (قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون).
رابعاً/ أسباب النزول
- سبب نزول الآية (62) (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ…) روى ابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً من المنافقين قال في شأن المتخلفين في غزوة تبوك ن نزل فيهم ما نزل: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرفنا وإن كان ما يقوله محمد حقاً لهم شر من الحمير وفي راية لنحن أشر من الحمير فسمعها رجل من المسلمين فقال والله إن ما يقول محمد لحق ولأنت شر من الحمار وسعى بها الرجل إلى النبي (ص) فأخبره فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال ما الذي حملك على الذي قلت فجعل يتلعن (يلعن نفسه) ويحلف بالله ما قال ذلك وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فنزلت الآية.
- سبب نزول الآية (65) (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ…) أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك في مجلسً يوماً ما رأينا قراءنا هؤلاء أرغب بطرناً ولا أكذب السنة ولا أجبن عند اللقاء فقال له رجل كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله (ص) فنزلت الآية.
خامساً/ وقفات مع الآيات في سورة التوبة
- الوقفة الأولى: لا يذل من يخضع لله سبحانه إنما يذل من يخضع لعباده ولا يصغر من يخشاه إنما يصغرون من يعرضون عنه فيخشون من دونه.
- الوقفة الثانية: إن المنافقين يدّعون الإيمان ومن يؤمن يعلم أن حرب الله ورسوله كبرى الكبائر وإن جهنم في انتظار من يرتكبها من العباد.
- الوقفة الثالثة: إن المنافقين يخشون دائماً أن تكشف حقيقتهم سواء يكشفها القرآن أثناء نزوله أو يتكشفون من خلال مواقفهم فيغطون ذلك بحلف الأيمان الكاذبة.
- الوقفة الرابعة: إن القرآن يعدد قبائح المنافقين وهي الإقدام على الأيمان الكاذبة ومعادات الله ورسوله والاستهزاء بالقرآن والنبي والمؤمنين والتخوف من افتضاحهم.
- الوقفة الخامسة: لا يقبل الهزل في الدين وأحكامه ويعتبر الخوض في كتاب الله ورسله وصفاته كفر.
- الوقفة السادسة: النفاق مرض عضال متأصل في البشر وأصحاب هذا المرض متشابهون في كل زمان ومكان وفي الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض أيديهم وإمساكهم عن الإنفاق في سبيل الله للجهاد فيما يجب عليهم من حق.
سادساً /الأحكام المستنبطة من الآيات
- الحكم الأول: الاستهزاء بالدين كفر بالله تعالى لمنافاته مقتضى الإيمان وهو تعظيم الله ولا يقتصر الكفر على القلب وإنما يشمل الاقوال والأعمال المكفرة.
- الحكم الثاني: التوبة من النفاق أو الكفر مقبولة إذا كانت صادقة.
- الحكم الثالث: إن حكم الهزل في اساسيات العقيدة من الاستهزاء بالله أو برسله أو بكتبه يعتبر كفراً بالله ورسوله أما حكم الهزل في العقود كالبيع والزواج والفسخ والطلاق فمختلف فيه بين العلماء على ثلاثة أقوال:
القول الأول لا يلزم مطلقاً وهو الأرجح والقول الثاني يلزم مطلقاً القول الثالث التفرقة بين البيع وغيره فيلزم بالزواج والطلاق ولا يلزم في البيع. - الحكم الرابع: قبول يمين الحالف وإن لم يلزم المحلوف له الرضا واليمين حق للمدعي ولابد أن تكون اليمين بالله أو باسم من اسمائه أو صفة من صفاته.
الدرس الثاني عشر من الآية (69-72) في سورة التوبة
وفي هذا الدرس ذكر التشابه بين المنافقين وبين الأمم السابقة الذين سبقوهم بالكفر بالله
أولاً/ أهداف الدرس الثاني عشر من سورة التوبة
- بيان أن المنافقين يستمتعون بنصيبهم في الدنيا دون أن يكون لهم حظ في الآخرة
- إبراز بأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
ثانياً/ التفسير والبيان
- (69) (فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ) تمتعوا بنصيبهم الذي قدر لهم من ملاذ الدنيا والخلاق: مشتق من الخلف بمعنى التقدير وأطلق على النصيب لأنه مقدر لصاحبه (وَخُضْتُمْ) دخلتم في الباطل (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) بطلت وذهبت أجورها لكفرهم.
- (70) (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ) أصحاب قرى قوم لوط عليه السلام التي قلبت أعاليها أسافلها من الائتفاك وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفل بالخسف يقال أفكه يأفكه إذا قلبه رأساً على عقب وذكر الله هذه الطرائف الست لأن آثارها باقية وبلادهم بالشام والعراق واليمن وكلها قريبة من أرض العرب فكانوا يمرون عليها في اسفارهم ويعرفون الكثير من أخبارهم.
- (72) (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) إقامة وخلود وقيل: اسم لمكان مخصوص في الجنة.
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه
(خلق) وردت على (3) أوجه
- الوجه الأول: وردت بمعنى النصيب قال تعالى (فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ…).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى التخرص والكذب قال تعالى (إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِين) وقال تعالى (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) وقال تعالى (إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَق).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى الإيجاد قال تعالى (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون).
رابعاً/ وقفات مع الآيات
- الوقفة الأولى: إن طبيعة المنافقين والكافرين الفاسقة المنحرفة الضالة ليست جديدة ففي تاريخ البشرية لها نظائر وأمثال ولقد حوى تاريخ البشرية من قبل هؤلاء نماذج كثيرة من هذا الطراز ولقد لاقى السابقون مصائر تليق بفسوقهم عن الفطرة المستقيمة والطريق القويمة بعدما استمتعوا بنصيبهم المقدر لهم في هذه الأرض وكانوا أشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فلم يغني عنهم من ذلك شيئاً.
- الوقفة الثانية: إن هؤلاء الذين يستمتعون بنعم الله غير شاعرين الكم، يسيرون في طريق الهلكة ولا يتعظون (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ) وقد أغرقهم الطوفان وطواهم اليم في تيار الفناء المرهوب (وَعَادٍ) وقد هلكوا بريح صرصر عاتية (وَثَمُودَ) وقد أخذتهم الصيحة (وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ) وقد أهلك طاغيتهم المتجبر وأنجى إبراهيم (وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ) وقد أصابتهم الرجفة وخنقتهم الظلة (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ) قرى قوم لوط وقد قطع الله دابرهم إلا الأقلين ألم يأتيهم نبأ هؤلاء (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ) فكذبوهم فأخذهم الله بذنوبهم (فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون).
- الوقفة الثالثة: إذا كان المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض من جبلة واحدة وطبيعة واحدة والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض إن المنافقين والمنافقات مع وحدة طبيعتهم لا يبلغون أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض فالولاية تحتاج إلى شجاعة وإلى نجدة وإلى تعاون وإلى تكاليف وطبيعة النفاق تأبى هذا كله ولو كان بين المنافقين أنفسهم إن المنافقين أفراد ضعاف مهازيل وليسوا جماعة متماسكة قوية متضامنة أما طبيعة المؤمنين متضامنين متكافلين متماسكين يعملون على تحقيق الخير لهم ولأمتهم وأما المنافقين ليس لهم هدف يحققونه لهم ولمجتمعهم وإنما يعملون اشباعاً لنزوتهم الخبيثة.
- الوقفة الرابعة: من صفات المؤمنين والمؤمنات المذكورة هنا بعد الإيمان بالله:
- المحبة فيما بينهم والتعاون والترابط والتعاطف
- يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
- يقيمون الصلاة المفروضة ويتنفلون
- يؤتون الزكاة المفروضة ويتصدقون تطوعاً
- يطيعون الله ورسوله في كل أوامره
- الوقفة الخامسة: تعرض الآيات جزاء المؤمنين والمؤمنات:
- جنات تجري من تحتها الأنهار
- المساكن الطيبة
- رضوان الله
- الوقفة السادسة: حقيقة العطاء عطاء الربوبية لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وهذا يكون بقدر الأخذ بالأسباب يكون العطاء والجزاء فالذي يخترع مثلاً ويقدم للبشرية نفعاً وقصده الدنيا فقط يجازه الله في الدنيا بالمال والجاه والشهرة…
أما عطاء الألوهية فقد خص الله تعالى به عباده المؤمنين وهذا العطاء عطاء العبادة الذي يجزي به الإنسان بالآخرة أو بالدنيا والآخرة كما قال تعالى (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) فالمؤمن الذي يتعبد الله بأداء الشعائر التعبدية ويتعبد الله في بناء الحياة فيعطي ثواب الدنيا وثواب الآخرة. - الوقفة السابعة: أن الله خاطب القوم المقصودين بالآيات بالقضية العامة بخطاب الحاضر (كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ…) وفي القضية الخاصة بخطاب الغائب (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) فكان هذا الخطاب ترقيقاً ومراعات لشعورهم وحرصاً على هدايتهم.
خامساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات
- الحكم الأول: أن حقيقة النفاق بأنه مرض عضال في البشر.
- الحكم الثاني: أن للمنافقين عذاب في الدنيا وعذاب في الآخرة .
- الحكم الثالث: الجزاء من جنس العمل جزاء المنافقين من جنس أعمالهم (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ).
- الحكم الرابع: أن المؤمنين رجال ونساء أمة واحدة مترابطة متعاونة متناصرة.
- الحكم الخامس: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الدرس الثالث عشر من الآية (73-79) في سورة التوبة
وفي هذا الدرس تحدثت السورة عن أسباب جهاد الكفار والمنافقين
أولاً/ أهداف الدرس الثالث عشر من سورة التوبة
- بيان تنوع الجهاد لكل فئة بما يتناسب معها
- أن خلف الوعد يورث النفاق
ثانياً/ التفسير والبيان
- (74) (وَمَا نَقَمُواْ) ما كرهوا وما عابوا شيئاً (النقم أشد الكراهة).
- (75) (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ) نزلت في ثعلبة ابن حاطب من بني أمية بن زيد وهو أحد المنافقين.
- (78) (يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) يعلم ما انطوت عليه صدورهم من النفاق وما تناجوا به بينهم من المطاعن والسر وهو الحديث المتكتم في النفس والنجوى المسارة في الحديث.
- (79) (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) يعيبون المؤمنين وهم المنافقون (جُهْدَهُمْ) طاقتهم وما تبلغه قوتهم.
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه
(عهد) وردت على (6) أوجه
- الوجه الأول: وردت بمعنى الحَلف قال تعالى (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ) وقال تعالى (وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً) وقال تعالى (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ…).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى الميثاق قال تعالى (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا) وقال تعالى (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى الأمر قال تعالى (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ).
- الوجه الرابع: وردت بمعنى الأمانة قال تعالى (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين).
- الوجه الخامس: وردت بمعنى التوحيد قال تعالى (إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا).
- الوجه السادس: وردت بمعنى الوفاء بالأمانة قال تعالى (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ).
رابعاً/ أسباب النزول
- سبب نزول الآية (74) (وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ) قال الضحاك كان قوماً قد أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله (ص) وهم معه يلتمسون غرته حتى أخذ في عقبة فتقدم بعضهم وتأخر بعضهم وذلك كان ليلاً قالوا إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي وكان قائده في تلك الليلة عمار بن ياسر وسائقة حذيفة فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل فالتفت فإذا هو بقوم ملثمين فقال إليكم يا أعداء الله فأمسكوا ومضى النبي (ص) حتى نزل منزلة الذي أراد فأنزل الله الآية.
خامساً/ وقفات مع الآيات
- الوقفة الأولى: إن الله نادى في القرآن آدم باسمه بقوله (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (35 البقرة)
ونادى نوح باسمه بقوله (قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ…) (48 هود)
ونادى إبراهيم باسمه بقوله (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيم قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) (104-105 الصافات)
ونادى موسى باسمه بقوله (يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) (11-12 طه)
وخاطب عيسى باسمه بقوله (يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاس…ِ) (116 المائدة)
إلا رسولنا فقد ناداه بقوله (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ) 13 مره،( يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ) مرتين تكريماً له عليه الصلاة والسلام ورفعاً لمقامه عند ربه. - الوقفة الثانية: إن الله لا يرسل رسولاً إلا إذا فسد المجتمع فساداً عامة ونعلم أن النفس الإنسانية قد فطرت على محبة الخير فإن لم يحكمها هواها فهي تفعل الخير وتحبه فإن حكمها هواها ستر عنها الخير وفتح الهوى للنفس أبواب الشر وقد يطيع الإنسان هواه في أمر من الأمور ثم يفيق فتلومه نفسه على ما فعل وهذه هي النفس اللوامة التي تلوم صاحبها على الشر وتدفعه إلى الخير ولكن هناك نفس تتوقف فيها ملكات الخير فتفعل الشر ولا تندم عليه ثم ترتقي النفس في الشر فتصبح أمارة بالسوء وتأبى الا تكتفي بفعل الشر بل تأمر به الناس وتحببه لهم وهذه النفوس إذا سمعت بصيحة الحق تبذل كل إمكانياتها لمقاومته ومحاربته سراً وعلانية وهنا فرض الله الجهاد لدفع شر هذه النفوس الشريرة عن المجتمع ونشر الخير فيه.
- الوقفة الثالثة: إن قول الله سبحانه (وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ…) دليل على فساد طبع المنافقين وعدم الإنصاف في حكمهم لأن الغنى والأمن الذي أصابهم ليس عيباً ولا يوّلد كراهية بل كان من الطبيعي أن يوّلد حباً وتفانياً في الإيمان فيرد الله عليهم هل تكرهونه وقد جاءكم بالعزة والغنى؟
- الوقفة الرابعة: مع قوله تعالى (إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ) فقال من فضله ولم يقل من فضلهما لأن الله لا يثنى مع أحد ولو كان محمد بن عبدالله ولذلك عندما سمع الرسول (ص) خطيباً يخطب ويقول من أطاع الله ورسوله فقد نجا ومن عصاهما فقد هلك فقال الرسول (ص) (بئس خطيب القوم أنت) لأن الخطيب جمع جمع تثنية بين الله ورسوله وهنا توقف الخطيب وقال فماذا أقول يا رسول الله فقال الرسول (ص) (قل ومن يعص الله ورسوله فقد هلك ولذلك نجد القرآن الكريم قال (مِن فَضْلِهِ) لأن الفضل واحد فإن كان لرسول الله (ص) فضل فهو من فضل الله.
- الوقفة الخامسة: إن الذي عاهد الله ليصدقن فقد اختلف العلماء فيمن عاهد الله من المنافقين فقال بعضهم ثعلبة بن حاطب وقال بعضهم متعب بن قشير فقال رأي ثالث أنه الجد بن قيس وقال رأي رابع أنه حاطب بن أبي بلتعه ورجح القرطبي أن الذين عاهدوا الله هم ثلاثة من المنافقين: نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومتعب بن قشير.
- الوقفة السادسة: إن الخبر قد يكون خبراً مجرداً عن النفي أو خبراً معه النفي أو خبراً معه الاستفهام وأقوى أنواع الأخبار الخبر الموجود معه النفي والاستفهام لأنه يجعل المخاطب هو الذي يجيب بإقرار كما قال تعالى (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ…).
- الوقفة السابعة: إن المطّوع هو الذي يزيد على ما فرض الله عليه من جنس ما فرض الله وهؤلاء هم المحسنون الذي قال عنهم (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون…).
سادساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات
- الحكم الأول: وجوب مجاهدة الكفار والمنافقين.
- الحكم الثاني: بيان أسباب جهاد الكفار والمنافقين.
- الحكم الثالث: إبراز مؤامرة المنافقين على الإسلام والمسلمين.
- الحكم الرابع: وجوب الوفاء بالعهود مع كل الناس.
- الحكم الخامس: بيان الموقف ممن ينقض العهود وهو نبذ عهودهم بعد أعلامهم.
الدرس الرابع عشر من الآية (80-85) في سورة التوبة
في هذا الدرس ذكرت الآيات كيف طعن المنافقين بالمؤمنين وعدم المغفرة لهم وفرحهم بقعودهم عن الجهاد
أولاً/ أهداف الدرس الرابع عشر من سورة التوبة
- بيان عدم مغفرة الله للمنافقين وأن تم الاستغفار لهم
- توضيح بعض أعذار المنافقين لقولهم لا تنفروا في الحرب
ثانياً/ التفسير والبيان
- (80) (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ…) أمر بمعنى الخير أي استغفارك لهؤلاء المنافقين وعدمه سيان ومهما أكثرت منه فلن يغفر الله لهم لإصرارهم على الكفر والفسوق، وعن ابن عباس في سبب نزول الآية أنه لما نزلت قوله تعالى (سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ) سأل اللامزون الرسول (ص) الاستغفار لهم فهم أن يفعل فنزلت فلم يفعل وذكر السبعين لإرادة التكثير والمبالغة على ما جرى عليه العرب في اساليبهم عند إرادة ذلك ونظيره قوله تعالى (ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) وقوله (ص) (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) متفق عليه. وليس المراد بها التحديد فلا مفهوم للعدد هنا ويؤيد ذلك التعليل بالكفر والفسق المذكورين بعد فإنهما قائمان بهم مع الزيادة على السبعين، وعاقبة هؤلاء المنافقين أنهم سيضحكون ويفرحون قليلاً في الدنيا بتخلفهم عن الجهاد ويبكون كثيراً في الآخرة لتلاعبهم واستهزائهم بدين الله جزاء بما اقترفوا من الآثام والمعاصي.
- (81) (خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ) بعد خروجه أو لأجل مخالفته.
- (83) (فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِين) مع المتخلفين بعد القوم عن الجهاد لعدم لياقتكم له كالنساء والصبيان ونحوه وجمع جمع المذكر للتغليب.
- (84) (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم…) نهى الرسول (ص) عن صلاة الجنازة على من مات منهم وفيها الدعاء والاستغفار وعن القيام عند قبره للدفن أو للزيارة والدعاء له لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا على فسقهم وكان من عاداته (ص) أن يفعل ذلك لمن مات من المسلمين وكان يعامل المنافقين بحكم الظاهر معاملة المسلمين حتى نزلت هذه الآية فما صلى بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قبض (ص).
- (86) (اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ) أي استأذنك في التخلف عن الجهاد أصحاب الغنى والسعة من المنافقين.
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه
(أذن) وردت على (6) أوجه
- الوجه الأول: وردت بمعنى طلب الأذن وهو الرخصة قال تعالى (…فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ…) وقال تعالى (فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى السماع قال تعالى (إِذَا السَّمَاء انشَقَّت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّت) وقال تعالى (قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيد).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى نادى قال تعالى (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) وقال تعالى (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ…) وقال تعالى (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ…).
- الوجه الرابع: وردت بمعنى الإرادة قال تعالى (وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ) وقال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ).
- الوجه الخامس: وردت بمعنى الأمر قال تعالى (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ) وقال تعالى (وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ) وقال تعالى (خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَم) وقال تعالى (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ).
- الوجه السادس: وردت بمعنى العلم قال تعالى (فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) أوردها الراغب في المفردات.
رابعاً/ أسباب النزول
- سبب نزول الآية (81) (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: أمر رسول الله (ص) الناس أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف فقال رجال يا رسول الله الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا ننفر في الحر فأنزل الله الآية المذكورة.
- سبب نزول الآية (84) (وَلاَ تُصَلِّ…) روى الشيخان عن ابن عمر (ض) قال لما توفي عبدالله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله (ص) فسأله أن يعطيه قميصه يكفن به أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام ليصلي عليه فقام عمر بن الخطاب وأخذ بثوبه وقال يا رسول الله (ص) أتصلى عليه وقد نهاك ربك أن تصلي على المنافقين؟ قال: إنما خيرني الله فقال (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً…) وسأزيده على السبعين رواه البخاري ومسلم فقال إنه منافق فصلى عليه فأنزل الله (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ) فترك الصلاة عليهم وقد فهم عمر (ض) في قوله تعالى (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ…) على أنه تقدم نهي صريح أو أنه فهم ذلك من قوله تعالى (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ).
خامساً/ وقفات مع الآيات
- الوقفة الأولى: إن الدعاء والاستغفار لا يستفيد منه أصحاب القلوب الفاسدة والضالة ولو كان استغفار الرسول (ص).
- الوقفة الثانية: إن أصحاب الهمة الضعيفة والنخوة الهزيلة والقلوب الخاوية من الإيمان لا يصلحون للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه وإنما يبررون هروبهم من الجهاد في سبيل الله بوجود العوائق سواء كانت عوائق من ظروف الجو من الحر أو البر أو عدم قدرتهم على مفارقة الأهل والأموال.
- الوقفة الثالثة: إن الدعوات بحاجة إلى طبائع صلبة مستقيمة ثابته مصممة تصمد في الكفاح الطويل الشاق والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون لا يصمد لأنهم يخذلونه في ساعة الشدة فيشيعون فيه الخذلان والضعف والاضطراب فالذين يضعفون ويتخلفون يجب نبذهم بعيداً عن الصف وقاية له من التخلخل والهزيمة والتسامح مع الذين يتخلفون عن الصف في ساعة الشدة ثم يعودون إليه في ساعة الرخاء جناية على الصف كله وعلى الدعوة التي يكافح في سبيلها كفاحه المرير.
- الوقفة الرابعة: إن الآية (وَلاَ تُصَلِّ…) فهي تقرر أصلاً من أصول التقرير في نظام الجماعة المكافحة في سبيل العقيدة هو عدم التسامح في منح مظاهر التكريم لمن يؤثرون الراحة المسترخية على الكفاح الشاق وعدم المجاملة في تقدير منازل الأفراد في الصف ومقياس هذا التقدير: هو الصبر والثبات والقوة والإصرار والعزيمة التي لا تسترخي ولا تلين.
- الوقفة الخامسة: إن الرسول (ص) عندما قال (فسأزيد على السبعين) غلّب جانب الرحمة وجانب الإكرام لعبد الله ابن عبد الله ابن أبي الذي أسلم وحسن إسلامه مع علمه أن الله لن يغفر للمنافقين حتى مع وجود استغفار الرسول (ص).
- الوقفة السادسة: الذين آثروا الراحة على الجهاد في ساعة العسرة وتخلفوا عن الركب في أول مرة هؤلاء لا يصلحون للكفاح ولا يرجعون للجهاد ولا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي ولا أن يتاح لهم شرف الجهاد الذي تخلفوا عنه.
- الوقفة السابعة: (وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ…) فإذا أنزلت سورة تأمر بالجهاد جاء أولو الطول الذين يملكون وسائل الجهاد والبذل جاءوا لا ليتقدموا الصفوف ولكن ليتخلفوا ويعتذروا ويطلبوا أن يقعدوا مع النساء لا يذودون عن حرمة ولايدافعون عن سكن وإنما ليرتاحوا من عناء الجهاد.
سادساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات
- الحكم الأول: لن ينفع المنافقين استغفار الرسول (ص) لهم مع استمرارهم بالنفاق
- الحكم الثاني: بيان مخالفات المنافقين وهي:
- التخلف في المدينة عن غزوة تبوك
- كراهيتهم للجهاد
- إغرائهم إخوانهم بعدم الجهاد فاستحقوا نار جهنم لما ذكر.
إقرأ أيضا: دروس من سورة التوبة من الدرس الخامس حتى العاشر
الدرس الخامس عشر من الآية (86-93) في سورة التوبة
في الدرس الخامس من هذه السورة فضحت الآيات كيف استأذن المنافقين والأعراب للتخلف عن الجهاد في سبيل الله
أولاً/ أهداف الدرس الخامس عشر من سورة التوبة
- إبراز حقيقة ما في نفوس الأعراب والمنافقين من عدم قناعتهم بالجهاد في سبيل الله.
- بيان حقيقة الأعذار الشرعية المقبولة للتخلف عن الجهاد من قبل المؤمنين.
ثانياً/ التفسير والبيان
- (87) (مَعَ الْخَوَالِفِ) أي مع النساء اللاتي تخلّفن عن أعمال الرجال وقعدن في البيوت أو مع الرجال العاجزين عن القتال.
- (90) (وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ) شروع في بيان أحوال منافقي الأعراب بعد بيان أحوال منافقي أهل المدينة وكان منافقوا الأعراب قسمين: قسم جاء إلى النبي (ص) معتذراً بأعذار كاذبة وهم أسد وغطفان اعتذروا بالمشقة وكثرة العيال وقيل هم رهط عامر بن الطفيل اعتذروا بخوف إغارة قبيلة طي على أهليهم ومواشيهم وهؤلاء هم المعذورون من عذر في الأمر إذا قصر فيه موهماً أن له عذراً ولا عذر له وقسم لم يجيء ولم يعتذر وهم الذين ذكرهم الله تعالى بقوله (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ) أي قعدوا عن المجيء إليه للاعتذار، والأعراب سكان البادية، والعرب سكان المدن والقرى.
- (91) (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء…) شروع في ذكر أرباب الأعذار الحقيقية بعد ذكر أرباب الأعذار المختلفة أي لا إثم في التخلف عن الجهاد على العاجزين عنه وهم: الضعفاء كالشيوخ والنساء والصبيان والمرضى كالعمى والمرض المزمن والعجز والفقراء العاجزون عن أُهبة السفر والجهاد كجهينة ومزيته وبني عذرة (حَرَجٌ) إثم أو ذنب في التخلف عن الجهاد (إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ) بالإيمان والطاعة ظاهراً وباطناً والنصح في الأصل: الخلاص يقال نصحته ونصحت له واستعمل في إرادة الخير للمنصوح له وأريد منه ما ذكرنا مجازاً.
- (92) (وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) أي تسيل دمعاً من الحزن على فقدان ما ينفقونه على أنفسهم في الجهاد والفيض: انصباب عن امتلاء واسناده إلى العين للمبالغة كما في جري النهر.
- (93) (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي الطريق للمعاقبة والمراد بالطريق الأعمال السيئة المقضية العقاب.
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه
(حرج) وردت على (4) أوجه
- الوجه الأول: وردت بمعنى الإثم قال تعالى (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ…) وقال تعالى (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى الشدة قال تعالى (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ) وقال تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى الضيق قال تعالى (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا…).
- الوجه الرابع: وردت بمعنى الشك قال تعالى (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا…) وقال تعالى (فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ).
رابعاً/ أسباب النزول
- سبب نزول الآية (90) (وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ…) قال الضحاك هم رهط عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله (ص) فقالوا: يا رسول الله إن غزونا معك أغارت أعراب طي على أهالينا ومواشينا فقال الرسول (ص) (سيغنيني الله عنكم) وعن مجاهد: هم نفر من غفار أو من غطفان اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى وعن قتادة: اعتذروا بالكذب.
- سبب نزول الآية (91) (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء…) أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب (بَرَاءةٌ) فإني لواضع القلم في أذني، إذ أمرنا بالقتال فجعل رسول الله (ص) ينظر ما ينزل عليه إذ جاءه أعمى فقال كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى فنزلت الآية.
- سبب نزول الآية (92) (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ…) فذكر في سبب نزولها ثلاث روايات:
- الأولى: أخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن ابن عباس قال: أمر رسول الله (ص) الناس أن ينبعثوا غازين معه فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبدالله بن مغفل المزني فقالوا: يا رسول الله احملنا فقال: والله لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا ولهم بكاء وعز عليهم أن يحبسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً فأنزل الله عذرهم (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ).
- الثانية: قال مجاهداً: هم ثلاثة أخوة: معقل وسويد والنعمان بن مقرن سألوا النبي (ص) أن يحملهم على الخفاف المدبوغة والنعال المخصوفة فقال (لا أجد ما أحملكم عليه) وهذا رأي الجمهور.
- الثالثة: قال الحسن البصري: نزلت في أبي موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول الله (ص) يستحملونه ووافق ذلك منه غضباً فقال: (والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه).
خامساً/ وقفات مع الآيات
- الوقفة الأولى: دلت الآيات (86-87) على أن رؤساء المنافقين القادرين على الجهاد بالمال والنفس تخلفوا عن الجهاد مع النبي (ص) ورضوا لأنفسهم المذلة والمهانة بالقعود مع العاجزين عن الخروج للجهاد وقد أدى ذلك على الطبع على قلوبهم فأصبحوا لا يميزون بين الخير والشر ولا بين المصلحة والمضرة أي أن حالهم التخلف ومآلهم انعدام الخير فيهم.
- الوقفة الثانية: كما دلت الآيات المذكورات (88-89) أيضاً على حال المؤمنين ومآلهم فحالهم أنهم بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إليه ومآلهم تحصيل الخيرات أي منافع الدارين والفوز بالجنة والتخلص من العقاب والعذاب.
- الوقفة الثالثة: إن تكاليف الجهاد الشاقة تحدث تمايز بين فريقين الفريق الأول الذي يتظاهر بالإسلام في وقت الرخاء ولكن في وقت الشدة تبرز صفات النفاق من الضعف والاستخفاء والالتواء والتخلف والرضى بالدون.
أما الفريق الثاني فريق المؤمنين حقاً ففي وقت الشدة تبرز لديهم صفات القوة والبلاء والاستقامة والبذل والكرامة والإقدام والثبات. - الوقفة الرابعة: إن للذل ضريبة كما أن للعزة ضريبة فضريبة الذل الحياة الرخيصة والدونية وتحمل الظلم والاستبداد والتعرض للابتزاز والمهانة والشقاء في الآخرة، وأما ضريبة العزة بذل المال والدم والتضحية ولكنها تحقق حياة العزة والكرامة في الدنيا والسعادة في الآخرة.
- الوقفة الخامسة: إن الصادقين في إرادتهم الجهاد في سبيل الله لا يسرهم وجود العذر لديهم عن القيام بالجهاد وإنما يؤلمهم ذلك لأنه يعيقهم عن أداء دورهم الفاعل في واقع الحياة لما يعلمون من عظم أجر الجهاد وأثره في الدنيا والآخرة وإنما تسر الأعذار المعيقة عن مواصلة الجهاد في سبيل الله من يتظاهرون بصدق الإرادة وفي حقيقة الأمر أن إرادتهم خائرة ضعيفة كاذبة تنكشف عند أول موقف جاد فتبرز على حقيقتها.
سادساً/ الأحكام المستنبطة من الآيات
- الحكم الأول: أن الجهاد واجب على كل مستطيع عليه ولا يسقط الوجوب وما يترتب على عدم القيام به من اثم الأعذار الكاذبة المختلفة قال تعالى (وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ…).
- الحكم الثاني: إسقاط فريضة الجهاد بسبب العذر عن أصناف ثلاثة من ذوي الأعذار وهم الضعفاء والمرضى والفقراء وأنه لا حرج ولا إثم على المعذورين بسبب القعود عن الجهاد.
- الحكم الثالث: سقوط التكليف عن العاجز عن أدائه كما قال تعالى (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء…) فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل وتارة إلى بدل هو غرم ولا فرق بين العجز من جهة القوة البدنية أو العجز من جهة المال ونظير الآية قوله تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا…) وقوله (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ…).