تفسير سورة الأنعام
تفسير سورة الأنعام … الدرس الحادي عشر

سنواصل معكم في هذه المقالة دروس وتفسير سورة الأنعام وذلك من الآية الـ 50 وحتى الآية الـ 53 وسنوضح لكم أيضا أهداف الدرس، وأسباب النزول، والكلمات التي وردت في القرآن لأكثر من وجه وغيرها.
أهداف الدرس الحادي عشر من سورة الأنعام
هذه الأيات تهدف لإبراز مصدر تلقي الرسول وهو الوحي وبيان المكانة الرفيعة للمؤمنين عند الله وإن كانت مكانتهم عند الناس دونية، فالمقامات تقاس بالتقوى.
التفسير والبيان
- (50) (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي) اقترحوا على الرسول (ص) اشياء تعجيزاً وتعنتاً فنزلت الآية أي قل لهم لا أدعي أن عندي مقدورات الله فأتصرف فيها كيف أشاء ولا أني أعلم الغيب فأخبركم بما سيكون ولا أني ملك حتى لا آكل ولا أشرب ولا أتزوج وما أنا إلا عبد الله يتبع ما أوحاه الله إليه، فكيف تقترحون علي ما لا شأن لي به ! والخزائن جمع خزانه وهي ما يخزن فيه الشيء النفيس وخزن الشيء أحرازه حيث لا تناله الأيادي، (خَزَآئِنُ اللّهِ) مرزوقاته أو مقدوراته.
- (51) (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ) خوف بالقرآن الذي أوحى إليك القوم الذين يخافون، (أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ) غير منصورين ولا مشفوعاً لهم، والمراد بهم عصاة المؤمنين، وقيل المقرون بالبعث سواء كانوا جازمين بأصله أو مترددين في شفاعة الأنبياء أو في شفاعة الأصنام، وهو أمر من الله لرسوله بتذكيرهم وإنذارهم وتنديداً بالمشركين الذين لا ينفع فيهم الوعظ والتذكير.
- (52) (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم) ولا تبعد عنك ضعفاء المؤمنين الذين سارعوا إلى الإيمان به واستداموا على عبادة ربهم يبتغون بها وجهه الكريم مثل سلمان الفارسي وبلال وصهيب وعمار وخباب، أملاً في اسلام رأساء المشركين وساداتهم الذين استنكفوا منهم وقالوا لو طردت هؤلاء السقاط لجالسناك بل اجعلهم جلسائك وأخصائك فهم عند الله أفضل وأزكى كما قال تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم) [الكهف:28] ولم يقع منه (ص) طرد لهم، وإنما هم بإبعادهم وقت حضور هؤلاء السادة لمصلحة أخرى وهي التلطف لهم طمعاً في اسلامهم، والغداة كالبكرة ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس والعشي آخر النهار أو من الزوال إلى الغروب والمراد بهما هنا جميع الأوقات، (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ) لما قال المشركون في حق هؤلاء الضعفاء إنهم ما قبلوا دينك ولا لزموك إلا لحاجتهم إلى المأكول والملبوس أن كان الأمر كما زعموا فما يلزمك ألا اعتبار الظاهر وحسابهم على الباطل لا يتعدى إليك كما أن حسابك لا يتعدى عليهم وهو كقوله تعالى (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام:164] وقوله (فَتَطْرُدَهُمْ) جواباً لقوله (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ) وقوله (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِين) جواباً لقوله (وَلاَ تَطْرُدِ) فتكون من الذين يضعون الشيء في غير موضعه.
- (53) (فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) جعلنا بعضهم فتنة لبعض أي ابتلاء تظهر به حقائق أنفسهم غير مشوبة بالشوائب التي تلتبس بها عادة. فابتلينا الفقراء بالأغنياء والأغنياء بالفقراء وكل فريق بضده.
الكلمات التي وردت في القرآن لأكثر من وجه
(نذرُ) وردت على (4) أوجه
- الوجه الأول: وردت بمعنى حذر قال تعالى (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ…) وقال تعالى (أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ…) وقال تعالى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ…) وقال تعالى (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ…).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى الخبر قال تعالى (هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى…) وقال تعالى (وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى الرسل قال تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُر) وقال تعالى (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُر) وقال تعالى (وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُر) وقال تعالى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِير قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ) وقال تعالى (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ).
- الوجه الرابع: وردت بمعنى النذر قال تعالى (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ...).
وقفات مع آيات الدرس الحادي عشر من سورة الأنعام
- الوقفة الأولى: (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ…) إن الرسول (ص) يؤمر من ربه أن يقدم لهم نفسه بشراً مجرداً من كل الأوهام التي سادت الجاهليات عن طبيعة النبي والنبوة وأن يقدم لهم كذلك هذه العقيدة بذاتها مجردة من كل إغراء لا ثراء ولا إدعاء إنها عقيدة يحملها رسول لا يملك إلا هداية الله تنير له الطريق، ولا يتبع إلا وحي الله يعلمه ما لم يكن يعلم. أنه لا يقعد على خزائن الله ليغدق منها على من يتبعه ولا يملك مفاتيح الغيب ليدل أتباعه على ما هو كائن ولا هو ملك كما يطلبون أن ينزل الله ملكاً، إنما هو بشر رسول، وإنما هذه العقيدة وحدها في صورتها الناصعة البسيطة.
- الوقفة الثانية: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ…) إنها عزة العقيدة واستعلاؤها على قيم الأرض الزائفة وتخلصها من الإعتبارات البشرية الصغيرة لقد أمر الرسول (ص) أن يقدمها للناس دون زخرف ولا طلاء ودون إطماع في شيء من قيم الأرض ولا إغرائها.
- الوقفة الثالثة: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم…) إن الرسول (ص) أمر أن يوجه عنايته إلى من يرجى منهم الإنتفاع بالدعوة، وأن يؤوي إليه الذين يتلقونها مخلصين ويتوجهون بقلوبهم إلى الله وحده يريدون وجهه وألا يقيم وزناً بعد ذلك لشيء من قيم المجتمع الجاهلي الزائفة ولا لشيء من اعتبارات البشر الصغيرة.
- الوقفة الرابعة: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم…) لا تطرد هؤلاء الذين أخلصوا نفوسهم لله فاتجهوا لعبادته ودعائه في الصباح والمساء يريدون وجهه سبحانه ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه وهي صورة للتجرد والحب والأدب فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحدة بالعبادة والدعاء وهو لا يبغي وجه الله إلا إذا تجرد له وحده وأحبه وتأدب معه وصار ربانياً يعيش لله وبالله.
- الوقفة الخامسة: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ…) فإن حسابهم على أنفسهم وحسابك على نفسك وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله لا شأن لك به كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه فإن طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان الله ولا تقوم بقيمة فتكون من الظالمين وحاش لله أن يكون الرسول (ص) من الظالمين.
- الوقفة السادسة: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ…) ويرد السياق القرآني على هذا الإستفهام الإستنكاري الذي يطلقه الكبراء (أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِين) الذين من الله عليهم بنعمة الشكر ونعمة الإيمان وأن هذه النعم التي أنعم الله بها على عباده لعلمه الكامل بمن يستحقها من هؤلاء العباد وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق الله.
- الوقفة السابعة: (وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا…) وهو التكريم بعد نعمة الإيمان واليسر في الحساب والرحمة في الجزاء.
الأحكام المستنبطة من الآيات
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
- إن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده خزائن الله ولا يملك التصرف في الكون.
- إنه لا يعلم الغيب مثل بقية البشر.
- إنه ليس بملك يشاهد من أمور الله ما لا يشاهده البشر.
- إنه لا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم.
- لا يعمل الرسول إلا بالوحي.
- مهمة الرسول كغيرة من الرسل الموصوفين يكونهم مبشرين ومنذرين.
- إن ميل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إبعاد الفقراء من مجلسه لكونه بشر أجتهد طمعاً بإسلام سادة قريش.
- تضمن قوله تعالى (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) إشارة إلى تبدل ميزان القوى ومراكز الناس.
- إبراز حقيقة المشركين بأنهم لم يستجيبوا للحق استكباراً وعناداً واستعلاء على الحق.
اقرأ أيضا: تفسير سورة الأنعام من الدرس الثاني عشر إلى الدرس الخامس والعشرين